نصف سنة دراسية لم تُعبّر نتائجها الرسميّة عن واقع تربويّ حقيقيّ في لبنان، ولم تنطوِ أيضاً على توقّعات مُثلى من الأساتذة والتلامذة، إذ عانت من فاقدٍ تعليميٍّ كبير، بدأت فصوله تتوالى منذ عامين وأكثر.
الأزمات المتلاحقة التي عصفت بالقطاع التربويّ جاءت لتعمّق الفجوة بين القطاعين العام والخاصّ، وانعكست سلباً على قدرات التلامذة واكتسابهم معارف تمكّنهم من اجتياز المرحلة الثانوية بأمان نحو #التعليم العالي، بعد تقليص جوهريّ أصاب المنهاج الدراسيّ. وهذا ما واجهته طالبتان، تمكّنتا من حصد نتائج جيّدة في امتحانات “الترمينال”، بجهد شخصيّ، كلّ بحسب ظروف مدرستها.
واجهت رين “سنة دراسة سيّئة” في إحدى الثانويات في الغبيريّ للإناث، واضُطرّت إلى الاستعانة بـ”معهد تعليميّ خاصّ؛ فالمعلومات المكتسبة من المدرسة لم تكن كافية”. لم تُجرِ الثانوية امتحانات فصليّة، ولم تُنهِ المنهاج كاملاً، ولجأت إلى تعويض إضافيّ قبيل فترة الامتحانات، فيما كان من المفترض حينها أن تقدّم مراجعة لطالباتها. خلّف تقليص المنهاج خللاً في المعارف، فلم تستطِع رين الإجابة عن أسئلة الدخول إلى الجامعة كاملة، واجتازت الاستحقاق بصعوبة.
الحال ليست مشابهة في المدرسة الخاصّة، بالرغم من مواجهة بعض العقبات، كتأخُّر تأقلم التلامذة مع العودة الحضوريّة الكاملة إلى الصفوف؛ فالمدرسة الخاصّة نجحت في إنجاز أكبر قدر من المنهاج، قبل إقرار #وزارة التربية التقليصات.
تعتبر مروى، الحائزة على المرتبة السابعة في لبنان في فرع علوم الحياة، أنّ “ما ساهم في عدم مواجهة مشكلات جوهرية هو دعم الأساتذة إلى جانب الجهد الشخصيّ، وتعلّمنا أغلبيّة المنهاج، بالرغم من أنّها سنة استثنائيّة”. وتروي لـ”النهار” كيف لجأ بعض الأصدقاء في المدرسة الرسميّة إلى الاستعانة بدروسها خلال فترة الإضراب وانقطاعهم عن التعليم.
“سنة كارثيّة”
إضراب وتعطيل وظروف قصّرت من عمر السنة الدراسيّة، وأدّت إلى اعتبارها “سنة كارثيّة”، وفق الرئيس السابق للمركز التربوي للبحوث الدكتور نمر فريحة، الذي لم يرَ في جعبة تلامذة الشهادات الرسمية “زوّادة تعليمية لـ12 عاماً دراسيّاً”، فـ”أتت النتائج بعيدة من الواقع بسبب عوامل ثلاثة: تخفيف لمستوى الامتحانات، تسهيلات في المراقبة، وتساهل في التصحيح”، معتبراً أنّ القاعدة الذهبيّة اليوم هي أنّه “على الطالب السّعي لينجح، لا أن أعمل عنه لإنجاحه”.
ليست كثرة الموادّ وحشو رأس التلميذ بالمعارف الطريقة الأنجع لحصد علامات جيّدة، لكن ثمّة معارف لا يُمكن إغفالها، عند وضع أسس المنهاج السنويّ، وتُعدّ ضرورة لكسب القيم والمهارات، ما يدفع فريحة إلى الإقرار بأنّه “لا يُمكننا رفع سقف التوقّعات المعرفيّة من الطالب، وأراهن على مستوى اللغة العربية الأمّ واللغة الأجنبية في #المدارس الرسمية المهملة كليّاً، إذ نفتقد إلى فلسفة تربويّة بتحضير التلميذ قبل ترفيعه”.
إلى ذلك، يقرّ فريحة، في حديث لـ”النهار”، أنّ “المستوى التعليميّ يتراجع منذ ما قبل ثورة 17 تشرين الأول وجائحة كوفيد، وهذا ما نلحظه في الامتحانات العالمية التي صنّفت طلابنا في المراتب الدنيا. ويكمن التحدّي على المدى البعيد في قدرة الطالب على المنافسة خارج البلد، إذ إنّ 30% من الطلاب فقط قادرون على الإبداع في الخارج، في حين لم يألو أحدٌ جهداً للجم تراجع الواقع التعليميّ المستمرّ في لبنان أو استعادته بضع درجات”.
هل من سنة دراسيّة جديدة في القطاع الرسمي؟
الإجماع حول تسهيلات، قدّمتها وزارة التربية للتلامذة في الشهادات الرسمية، ساهمت في نتائج عالية لبعضهم، أمرٌ ترفضه رئيسة رابطة التعليم الثانوي الرسمي ملوك محرز، التي شدّدت على أنّ “نتائج التعليم الثانويّ مشرّفة جدّاً، وليس صحيحاً أنّ مستوى الامتحانات كان سهلاً، بل المستوى قُدّم كما في كلّ عام، ويمكن مقارنة النتائج بنتائج السنوات الماضية في الوزارة، ممّا يؤكّد عدم تراجع المستوى التعليميّ في لبنان”.
السنة الدراسية الاستثنائيّة تطلّبت إجراءات استثنائية، فالمدارس الرسمية كانت أمام خيارَين، إمّا انقطاع التعليم كليّاً أو تعليم جزئيّ للموادّ، ممّا دفعهم إلى القبول بالأمر الواقع تفادياً لتضييع عام دراسيّ جديد.
تقول محرز لـ”النهار” إنّ “الثانويات قدّمت ما يتناسب مع الوضع بشكل منظّم. كلّ إدارة كانت حريصة على إعطاء اللازم للطالب بالرغم من تقليص المنهاج، فيما بادر البعض إلى تقديم ساعات تدريس إضافية بالرغم من الظروف والمآسي، فالإضراب حتماً يؤدّي إلى إرباك الأساتذة والتلامذة، ويؤثر على العمليّة التعليميّة”.
ومع استعداد المدارس الخاصّة لبدء سنتها الدراسيّة الجديدة في غضون أيام، لا تزال المدارس الرسمية عاجزة عن الإجابة عن سؤال “هل من سنة دراسية جديدة؟”، فلم تدخل بعدُ في مرحلة التفاوض التربوي مع وزارة التربية، مكتفية الآن بتقديم مذكّرة مطلبيّة واضحة إلى رئيس الحكومة أو الوزير، تتضمّن خطة اقتصادية للمعلّمين، قبل تحديد المناهج وفق الظروف التي يمرّ بها القطاع. وتؤكّد محرز أنّنا “سنكون شركاء مع المركز التربوي للبحوث في وضع المناهج لكلّ المراحل، وتحديد أيّام العمل والتعليم، بعد الانتهاء من إقرار المطالب الاقتصادية”.
ماذا عن القطاع الخاص؟
نجح القطاع التربوي الخاصّ هذا العام بالالتزام بأيّام التدريس المحدّدة، وتغطية المنهاج بالتنسيق مع المركز التربوي للبحوث، في حين أخذ تقليص المناهج وقتاً طويلاً مع لجان عديدة وأساتذة التعليم الرسمي والخاص، ولم يفِ بالغرض كاملاً، وأتى منقوصاً.
ولعدم مواجهة الصعوبات ذاتها، يلفت نقيب المعلّمين في المدارس الخاصّة رودولف عبود، لـ”النهار”، إلى أنّ “المركز التربوي سيعقد ورش عمل لإلغاء التقليص، مع دعوة الأساتذة في القطاعين للمشاركة في الورش وعرض المنهج الجديد، أو إعادة أقسام إليه لتعزيز أهداف المتعلّم. وقد وُضعت تفاصيل الموادّ، وتمّ تشكيل اللجان بانتظار التمويل، ممّا قد يتطلّب دعماً من جهات مانحة لصعوبة تأمينه من الدولة”.
الإشكالية اليوم تكمن في كيفيّة إنعاش المستقبل الدراسيّ، إذ يعتبر عبود أنّ “تعويض الفاقد التعليمي قد يكون ممكناً للتلامذة في الصفوف الانتقاليّة، إنّما الانقطاع بين المدرسة والجامعات يتطلّب تنسيقاً قبل التحاق الطلاب بكلياتهم. وسيواجه الطلاب مشكلات في الكفايات العلميّة، وفي الجهوزية، لمتابعة تعليمهم العالي”.
عند تحليل نتائج التعليم في السنتَين الأخيرتَين، لا يُمكن إغفال تأثير إضراب القطاع العام على سير البرامج، والوضع الصحّي الذي رافق موسم الشتاء، ومشكلات التعليم عبر الأونلاين، إضافة إلى فقدان كفاءات من المعلّمين بعد هجرتهم إلى الخارج، خصوصاً في القطاع الخاص. وهذا يدفع إلى النّظر مليّاً في خطط تربويّة قابلة للتنفيذ في هذه الظروف، لئلّا يكون تلامذة هذا العام أمام واقع مشابه، أو أكثر سوءاً من ذي قبل.
وهنا يدعو المدرّب التربوي الأستاذ محمود عيسى إلى “المباشرة بدراسة عدد الأيام الحضوريّة الممكنة، خصوصاً في القطاع العام، بشكل دقيق، مع ما يمكن تقديمه إلى الأساتذة من مساعدات، إلى جانب عقد اجتماعات لتقليص المنهاج بطريقة مدروسة، تُراعي الأهداف الانتقاليّة والأساسيّة لكلّ صف لتفادي مسألة التجزئة، وللأخذ بالاعتبار ترميم الفاقد التعليمي”.
ويؤكد عيسى، في اتصال مع “النهار”، أنّه “لا يُمكن الفصل بين ما حقّقه التلامذة من نتائج خطة العمل التربويّة التي اعتمدتها المدارس”، معتبراً أنّ “نتائج #الامتحانات الرسمية لا تعكس الواقع موضوعيّاً مع حرصنا على الحفاظ على صورة الشهادة الرسميّة”.
الواقع التعليمي في لبنان يمرّ بأسوأ مراحله اليوم، والصورة لا تزال ضبابيّة لما ستؤول إليه الخطط التربويّة في الأسابيع المقبلة، والتي من المفترض أن تضع السنة الدراسية الجديدة على سكّتها، لبدء إنقاذ تربويّ مرتقب وضروريّ، وإعادة قطاع التربية إلى مستوياته العليا.
كارثة تعصف بالتعليم ونتائج الشهادات الرسمية “لا تُعبّر عن الواقع”… كيف يمكن التعويض؟