كل المنطق الصراعي القائم في لبنان منذ أكثر من خمسة عقود يستند إلى معادلة التمسُّك بالشرعية في مواجهة الفريق الذي يطيح هذه الشرعية، بانتظار الظروف المحلية والخارجية التي تعيد الاعتبار للمسار الشرعي الطبيعي.
الاستثناء الشرعي الوحيد الذي طبِّق منذ 32 عامًا إلى اليوم، أي منذ انتهاء الحرب اللبنانية، يكمن في تنفيذ الشقّ المتعلِّق بخروج الجيش السوري من لبنان الوارد في القرار 1559، وكل ما هو خلاف ذلك لم يُطبّق. فلا اتفاق الطائف سلك طريقه إلى التنفيذ منذ لحظة إقراره، والقرارات الدولية بقيت حبرًا على ورق، بدءًا من نزع سلاح الميليشيات الوارد في القرار 1559 والمأخوذ من وثيقة الوفاق الوطني، مرورًا بالقرار 1680، حيث بقيت الحدود بين لبنان وسوريا من دون ترسيم، وصولًا إلى القرار 1701 الذي ينص على وجوب ان تكون المنطقة بين الخط الأزرق ونهر الليطاني خالية من أي مسلحين، وتجريد كل الجماعات اللبنانية من سلاحها، فيما القاصي يعلم والداني أيضًا، انّ هذه المنطقة مليئة بمخازن السلاح ويتحرّك فيها «حزب الله» بشكل عادي وطبيعي.
وقد تحولّت المطالبة بتطبيق اتفاق الطائف والقرارات الدولية إلى لازمة تتردّد بصورة يومية، والفريق الذي يضع حاجزًا أمام الشرعيتين اللبنانية والدولية يستفيد من أمرين أساسيين: الأول انّ القوى السياسية المناوئة لنهجه غير قادرة على تطبيق اتفاق الطائف، وهذا ما يجعله غير آبه لمطالباتها التي تبقى ضمن حدود القنابل الصوتية، على غرار النظام السوري الذي لم يكن يكترث للأصوات الداعية إلى خروج جيشه من لبنان، بل كان يوظِّفها مع المجتمع الدولي بأنّه راعٍ للديموقراطية في لبنان، ويواصل بالمقابل سياسة القضم التدريجي التي يتبعها.
والأمر الثاني، انّ عواصم القرار منشغلة بأزماتها ولا تضع الملف اللبناني من ضمن أولوياتها، وليست في وارد تطبيق قراراتها بالقوة، وكل اهتمامها ينحصر بالحفاظ على الاستقرار، وتربط حلّ أزمته بأزمة المنطقة والملف النووي المرحّل إلى ما بعد الانتخابات الأميركية النصفية، والذي لا تربطه أساسًا بالدور الإقليمي لطهران المزعزع للاستقرار، وبالتالي ينام على حرير الموقف الدولي الذي يُكرِّر مواقفه ببغائيًا من دون أي خطوات عملية.
وكيف يمكن لمواجهة سياسية ان تحقِّق الأهداف المرجوة منها في حال كان الفريق المعارض للشرعيتين اللبنانية والدولية يعرف سقف خصميه المحلي والدولي، وهذا السقف يقف عند حدود الدعوات المتكرّرة لتنفيذ الدستور والقرارات الدولية، مع العلم المسبق بأنّ التنفيذ لن يتحقّق قبل ان تنضج او تطرأ ظروف خارجية لا يمكن التحكُّم بتوقيتها، وهذا ما يجعل «حزب الله» مطمئنًا إلى وضعه؟
فما يحصل على أرض الواقع هو انّ الشقّ الأبرز من اتفاق الطائف المتعلِّق بسيادة الدولة لا يُطبّق. وأثبتت الوقائع انّ عدم تطبيق هذا الجانب أبقى الدولة في حالة غير متوازنة، فلا قضاء فعليًا في ظلّ دويلة متحكّمة بالقرار السياسي، ولا مكافحة فساد جدّية مع منظومة تتنفّس من الفساد، ولا ثقة في بلد يمكن ان ينهار استقراره في أي وقت، وهذا ما يفسِّر الانهيار الحاصل، لأنّ التعايش بين مشروعين متناقضين غير ممكن، ما يعني انّ سقوط الاستقرار المالي الذي بدأ منذ العام 2019 كان مسألة حتمية
والمطالبة بتطبيق الطائف لا تزعج «حزب الله» طالما انّها لن تقود إلى تنفيذه، ولا بل اعتاد على سقف المواجهة معه، ونظّم وضع تعايشه مع أخصامه على قاعدة المنافسة في كل ما يتصل بالإدارة المحلية والشأنين الحكومي والمجلسي. وأما ما يتصل بالإدارة الاستراتيجية للدولة، فيعتبره حقاً حصريًا له وينتزعه بقوة الأمر الواقع، فلا يسلِّم سلاحه ولا يتخلّى عن دوره الإقليمي، وهذا الفصل بين إدارة محلية وأخرى استراتيجية هو الذي أوصل إلى الانهيار، خصوصًا انّ المدخل لوقف هذا الانهيار يبدأ من الباب الاستراتيجي لا التقني، ولو كان خلاف ذلك لما انزلق لبنان إلى مستنقع الفشل والفقر.
فكل محاولة لتحسين الإدارة المحلية الحكومية والمجلسية ستصطدم بالمصلحة الاستراتيجية لـ»حزب الله»، ما يعني الاستمرار في دوامة الفشل نفسها بين حياة سياسية يومية لا تقدِّم ولا تؤخّر في المعطى المتصل باسترجاع قرار الدولة، وبين إبقاء لبنان ساحة نفوذ متقدّمة للدور الإيراني، ولم يعد ينفع بعد أكثر من 17 سنة على خروج الجيش السوري من لبنان واستمراره ورقة بيد محور الممانعة عن طريق الحزب بعد النظام السوري ان تتواصل المواجهة تحت سقف الخلاف الاستراتيجي، لأنّ البلد وصل إلى الحضيض، والأرقام المخيفة للهجرة تهدِّد بسقوط الميزان الديموغرافي، ويبدو انّ هذا التوجُّه يندرج في إطار مخطّط نفِّذ في سوريا على الحامي وينفّذ في لبنان على البارد، فيما التوازن في أي مواجهة سياسية بحاجة إلى ثلاثة مقومات أساسية: قوة سياسية ترفض التنازل والمساومة، قوة اقتصادية تمنع الهجرة وتُبقي الناس في أرضها، وقوة ديموغرافية تحول دون سيطرة فئة على الفئات الأخرى، وفي حال سقوط او ضعف القوتين الاقتصادية والديموغرافية تصبح القوة السياسية في حكم الساقطة عسكريًا.
فبعد أكثر من 17 عامًا على المواجهة مع مشروع «حزب الله» لم يعد من الجائز ولا المجدي ان تبقى هذه المواجهة ضمن الحدود المتبعة منذ العام 2005، خصوصًا بعد ان أظهرت العجز عن دفعه إلى تسليم سلاحه، وأصبح مستفيدًا منها كونها لا تمسّ بسلاحه ودوره. ومن المفيد التذكير دوما بأنّ مدة المواجهة معه تجاوزت مدة الحرب الأهلية (15 سنة) ومدة الاحتلال السوري للبنان (15 سنة)، وبالتالي، هل يجوز الاستمرار في سياسة المواجهة نفسها والتعويل على تطورات خارجية قد تأتي وقد لا تأتي؟
وما ينطبق على اتفاق الطائف المعلّق تطبيقه ينسحب على القرارات الدولية المعلّق تطبيقها، ولا بل القوات الدولية في الجنوب تبرِّر له عدم الاحتكاك بالجيش الإسرائيلي، فيما انسحاب هذه القوات يضعه في مواجهة مباشرة مع إسرائيل، ومفهوم اي قوة دولية انّها تُنشر لمنع الحرب بين دولتين، فيما في الحالة اللبنانية قرار الحرب ليس بيد الدولة، إنما بيد الحزب، وهذه القوة لا تنفِّذ القرار 1701 الذي ينص بوضوح على وجوب ان تكون المنطقة التي تتواجد فيها خالية من المسلحين، بينما هذه المنطقة مليئة بالسلاح والمسلحين، ما يعني تحولت القوات الدولية إلى شاهد زور وقوة دعم اقتصادي لبيئة «حزب الله».
وإذا كان مفهومًا، على رغم انّه ليس كذلك، انّ مجلس الأمن ليس في وارد تنفيذ قراراته بالقوة وفي طليعتها القرار 1559، فلماذا يُبقي على قوة دولية في جنوب لبنان تخدم «حزب الله» لا الدولة اللبنانية، وتُمنع من الحركة منفردة من قِبل الأهالي، أي الحزب؟ والقرار الجديد الذي صدر عن مجلس الأمن تحت رقم 2650 ويمدِّد لـ»اليونيفيل» ويطوِّر مهمتها على الأرض لن يُنفّذ بدوره، لأنّ الحزب سيمنع تنفيذه. وبالتالي إما ان تمارس «اليونيفل» دورها، وإما ان ترفض ان تكون شاهد زور وترحل عن لبنان.
ويُفترض ان تكون الانتخابات الرئاسية الفرصة او المحاولة الأخيرة من أجل السير بسياسة داخلية لا يؤثر فيها «حزب الله»، وسياسة خارجية لا يعكِّرها بمواقفه. فإذا سلكت الأمور مسارها ونجحت السلطة الجديدة من باب إقفال المعابر غير الشرعية وضبط كل المعابر البرية والجوية والبحرية، وبدأت عملية إصلاحية جدّية، وتصدّت لأي انتهاك لعلاقات لبنان الخليجية، يمكن عندذاك الرهان على مسار التغيير من داخل المؤسسات. ولكن في حال استمرت الأمور على المنوال نفسه، فمن الخطيئة الرهان على انتخابات العام 2026، لأنّه لن يبقى لبناني حتى ذاك العام في بلده، وبالتالي على القوى والكتل المعنية ان تنقل المواجهة من استحقاقات دستورية تبقى تحت سقف الحزب، إلى ضغط نيابي وشعبي دفعًا لمؤتمر دولي حول لبنان، فالوقت قاتل ويوظّف من قِبل الممانعة لخلق أوضاع جديدة على الأرض.
فالاستراتيجية المتبعة لجهة التمسُّك بالشرعية وزيادة الوزن التمثيلي الداخلي إفساحا في المجال أمام مزيد من تسجيل النقاط بانتظار متغيّرات خارجية لم تعد صالحة، وحان الوقت لاستبدالها باستراتيجية الخروج من المواجهة تحت السقف إلى المواجهة فوق السقف، من خلال تعبئة كل الإمكانات ووضع هدف واحد، وهو الوصول إلى عقد مؤتمر دولي يعيد صياغة الوضع اللبناني