يفيض الاهتمام الإقليمي والدولي فصولاً على لبنان ويتحلّق ممثّلو الغرب والشرق حول الوطن المحتضر لإنقاذه، يزورونه مراراً لاستطلاع آراء سياسييه في داراتهم العريقة، ويعقدون اللقاءات الدولية لفك طلاسم العقول الصدئة ويستدعون الطامحين إلى الرئاسة محاولين عبثاً سبْر ما في خوابيهم من حكمة لإدارة الرئاسة الأولى. أغرب ما مقاربة أهل للسلطة للإستحقاق الرئاسي هو الإمعان في استخراج المرشحين من غياهب ماضٍ سحيق وخزائن سوداء لم يتسرّب إليها النور. أما حيال تقييم المواصفات المطروحة والرفض المطلق لإدخال المرشحين من خارج الموروث السياسي، فالمضحك المبكي هو في انتحال كلّ من يعنيهم الأمر دور المنقذ والتنصّل مما اقترفته على أيديهم حوكمة رديئة وفساد متأصّل وزبائنيّة غير مسبوقة.
يجهد الأشقاء العرب لإخراج لبنان من محنته، وإذ يقوم الوفد القطري برئاسة وزير الدولة في وزارة الخارجية محمد عبد العزيز الخليفي بزيارة على كافة المرجعيات السياسية والروحية بعد اللقاءات الخماسية في باريس، وبعد زيارة مُساعدة وزير الخارجيّة الأميركيّ لشؤون الشّرق الأدنى السّفيرة باربرا ليف إلى لبنان، فما يمكن قراءته من الزيارة هو وضع تفاصيل ما يجري في باريس بمتناول كلّ من يعنيهم الأمر بعيداً عن الأوهام والتصورات اللبنانية، وبما ينسجم مع كلّ المقاربات العربية والدولية المتدخلة في الوضع اللبناني والتي سبق أن عبّرت عنها المملكة العربية السعودية والولايات المتّحدة في أكثر من مناسبة.
تدحض زيارة الوفد القطري كلّ محاولات البناء على زيارة سليمان فرنجية الى باريس وتعيد الاستحقاق الرئاسي الى المربّع الأول، وإذ يؤكد الوزير الخليفي أنّ «المشاركة في إجتماع باريس مهمّة جداً وأهمّ النّتائج الّتي خرجت عن هذا اللقاء هي حثّ المسؤولين على ملء الفراغ الرّئاسيّ». إنّ ذلك يعني وبالفم الملآن أنّ ما تمّ تسويقه عن لقاء فرنجية مع المستشار في الرئاسة الفرنسية باتريك دوريل، حول الإستماع الى فرنجية للوقوف على قدراته في تطويع حزب الله وحلّ مسألة اللاجئين مع حليفه النظام السوري لإقناع المملكة العربية السعودية بتأييده والضغط على حلفائها في لبنان هو كلام في غير محله. وفي هذا الإطار فإنّ أيّ محاولة للرهان على إنقسام في موقف لقاء باريس هو غير واقعي وإنّ أقصى ما يمكن أن يبلغه موقف فرنسا هو المراوحة وإطالة عُمر الأزمة، وبالتالي فإنّ أيّة مقايضة لإيصال فرنجية الى بعبدا هي مسألة محكومة بالسقوط على وقع جاذبية سقوط فرنجية كمرشّح جدي للرئاسة.
إنّ محاولة القراءة في تصريح الوزير الخليفي حول «العمل ضمن المنظومة الدوليّة هو ركيزةٌ أساسيّةٌ ضمن استراتيجيّة قطر وسياستها الخارجيّة» يأخذنا الى ما هو أبعد من الأزمة الرئاسية ببعدها اللبناني وضرورة ربطها بالمستجدات الإقليمية. وبهذا المعنى فإنّ الإستجابة اللبنانية لم تعدْ وقفاً على ما يقتنع به الساسة اللبنانيون، بل أنّ هناك تقييدات تفرض نفسها ولا بدّ من أخذها بعين الإعتبار للإتّساق مع الموقف الدولي:
١- التزام المواصفات والمعايير الأمنية والسياسية من قِبل المرشّح للرئاسة كشرط لإنهاء الشغور الرئاسي وإخراج لبنان من عزلته، وتطبيق الإصلاحات الإدارية وإعادة الهيكلة المطلوبة لا سيما في قطاع الكهرباء، وفقاً لما ورد في لقاء باريس وبما فيها توقيع الإتّفاق مع صندوق النقد الدولي كمقدّمة لمساعدة لبنان وعودة الإستثمارات قبل بلوغ الإنهيار الكامل المُرتقب عند نهاية السنة.
٢- وقع الإلزامات الإقليمية التي يفرضها التقارب السعودي – الإيراني وتفرضها عودة سوريا الى الحاضنة العربية، والتي تُلقي بثقلها على المشهد الشرق أوسطي برمّته بما في ذلك مستقبل الدور الإيراني في سوريا ولبنان والإطار الجديد للصراع العربي الإسرائيلي.
٣- عدم وضوح الموقف الأميركي مما يجري وظهور مؤشّرات لتصعيد ميداني مفتوح أضحت بوادره واضحة على الساحة السورية من خلال العمليات العسكرية المكثفة التي تخوضها الولايات المتّحدة في شمال شرق سوريا ضد المواقع الإيرانية ومن خلال ما تقوم به إسرائيل بشكل يومي في محيط دمشق وفي حمص. وفي هذا الإطار لا بدّ من الأخذ بعين الإعتبار دخول معطى جديد يتمثّل باجتياز مسيّرة إيرانية المجال الجوي لفلسطين المحتلّة عبر جبهة الجولان.
يقول مساعد الأمين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم في خطبة الجمعة في مسجد الإمام المجتبى: «لا يملك لبنان تَرف الوقت لتكبير الحجر بالحديث عن تغيير النظام أو تعديل الطائف كأولويّة، فلننجز الإستحقاقات الداهمة وبعدها يطرح من يريد إجراء تعديلات وفق الأطرّ الدستورية… ويضيف: «عنتريات الرفض والقبول لا تقدّم حلاً، إجمع عدداً كافياً من النواب حول خيارك، فإذا نجحت يكون الرئيس الذي تريد، وإذا فشلت فالرئيس الذي يختاره المجلس النيابي هو رئيس كل لبنان».
لا شك أنّ حراجة المرحلة تفرض نفسها ويستشعر حزب الله إستحالة الإحتفاظ بالمبادرة في خِضم المتغيّرات التي تتجاوز الساحة اللبنانية.
وقد يكون لما قاله قاسم حول ضبابية الموقف وضرورة الإنكفاء وتأجيل الطموحات إلى توقيتها المناسب ما يستحق التوقف عنده فهل يُسقط حزب الله خيار فرنجية ويقود مسيرة البحث عن مرشّح ثالث؟