Uncategorized

العالم اليوم: فوضى وارتباك ولا أحد يعلم إلى أين

راغدة درغام_النهار العربي

تأزّمت الأمور هذا الأسبوع على الصعيدين الروسي والإيراني لأسبابٍ نفطيّة ونوويّة، فدخلت الجمهورية الإسلامية الإيرانية دائرة الرياح الغربية – الروسية العاصفة من بوابة الطاقة. طغت طموحات طهران النووية على أولويات النهضة الاقتصادية لاحتواء الاضطرابات الشعبية وعرقلت مسار المفاوضات لإحياء الاتفاقية النووية JCPOA. بات شبه مستحيل إنجاز أي اتفاق قبل الانتخابات النصفية الأميركية في شهر تشرين الثاني المقبل. كما دخلت الانتخابات الإسرائيلية أيضاً كعنصر مؤثّر في عملية التجاذب والمواجهة بين إيران والدول الغربية التي تفاوضها على إحياء الاتفاق النووي، الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا وفرنسا.

روسيا تأهّبت لما تعتبره الحرب الاستفزازية الغربية ضدها، فأطلق رئيسها فلاديمير بوتين حرب إنذاراته التصعيدية الشهيرة Ultimatums والتي يأمل في أن تؤدّي الى زعزعة الاستقرار الأوروبي والإطاحة ببعض الحكومات الأوروبية. توعَّد بإيقاف ضخ النفط والغاز الروسي الى أوروبا فوراً وليس تدريجياً وذلك انتقاماً من قرار الغرب بوضع سقف على أسعار النفط والغاز الروسيين. بات واضحاً أن لا سلام آتٍ على الجبهة الغربية بالنسبة إلى روسيا لا سيّما بعد الخطاب الناري للرئيس الروسي في مؤتمر فلاديفوستوك، ولا مجال في الأفق لوقف الحرب الأوكرانية. أما بالنسبة إلى المفاوضات النووية مع إيران، فقد طرأ جديد على معادلة دفع الرئيس الروسي بقوّة نحو إنجاح المفاوضات النووية – النفطية بين الغرب وطهران. ذلك ان حرب الطاقة نقلت المواجهة مع الغرب الى مرتبة جديدة وغير اعتيادية.

من المتوقع أن يجتمع الرئيس بوتين مع نظيره الإيراني الرئيس إبراهيم رئيسي أثناء اجتماع منظمة شانغهاي منتصف الشهر الجاري حيث قد يتفقان على مقايضة تناسب كلاهما. طهران تريد أن تصبح عضواً في المنظمة لأسبابٍ أمنية بالدرجة الأولى، وموسكو تعتقد أن في وسعها تأمين هذه العضوية. فكرة موسكو هي أن في وسعها السيطرة على سياسة إيران النفطية إذا ما تم الاتفاق مع الغرب وتم رفع العقوبات عن الصادرات النفطية الإيرانية. وفي ذهن القيادة الروسية قيام إيران ببيع جزء ضئيل من صادراتها النفطية الى أوروبا مع تعزيز مبيعاتها النفطية الى الصين والهند وغيرهما.

بكلام آخر، ما يأمل به فلاديمير بوتين هو أن يستفيد سياسياً ودبلوماسياً من تسهيله إبرام الاتفاق النووي مع إيران ليبدو رجلاً فاعلاً على الساحة الدولية ما زال قادراً على تيسير الصفقات الكبرى. هذا بالنسبة إليه نجاح سياسي. عمليّاً، ما يأمل به بوتين لدى انعقاد قمّة قادة الدول الأعضاء في منظمة شانغهاي في 15-16 الشهر الجاري في سمرقند هو أن يضمن أن إيران لن تبيع نفطها الى أوروبا. انها لعبة المقايضات الكبرى.
أوروبا تعتقد أن الجمهورية الإسلامية الإيرانية ستختارها هي وليس روسيا في زمن حرب الطاقة. لذلك اندفعت العواصم الأوروبية لإبرام الإتفاقية بتنازلات عارمة الى أن جاءت العصا النووية لتوقف دولابها. واقع الأمر أن الجمهورية الإسلامية الإيرانية لن تختار أوروبا فوق روسيا والترويكا الأوتوقراطية التي تضمهما مع الصين- فهذا تحالف استراتيجي بعيد المدى.

لعل بعض الدول الأوروبية بدأ يدرك أن حساباته الإيرانية اصطدمت بواقع الطموحات النووية للجمهورية الإسلامية الإيرانية. طهران أوضحت أن الأولوية النووية تأتي فوق المال. تنازلت طهران تكتيكياً في مسألة العقيدة التي يحكم النظام في طهران بموجبها وذلك عندما وافق النظام على عدم الإصرار على شطب “الحرس الثوري” من قائمة الإرهاب كشرط مسبق لإبرام الاتفاقية.

لكن طهران حصلت على تنازلات من إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن تحايلت على استبعاد “الحرس الثوري” عن الاستفادة من رفع العقوبات. فإدارة بايدن وافقت على رفع العقوبات عن الشركات الإيرانية التي تتعامل مع “الحرس الثوري” المصنَّف إرهابياً- وكانت تلك خطوة خطيرة على كامل الاتفاق بسبب غضب أعضاء في الكونغرس مما اعتبروه تعاوناً مع النظام وقفزاً على اعتبار “الحرس الثوري” إرهابياً.

الخطوة الخطيرة الأخرى التي قد تنسف الاتفاق تكمن في رفض إيران الالتزام بعمليات تفتيش إضافية من جانب الوكالة الدولية للطاقة الذرية لأنشطة طهران تزامناً مع إعلان الوكالة الدولية الأربعاء الماضي أنها “لا تستطيع ضمان” الطبيعة السلمية للبرنامج النووي الإيراني مؤكدة أنه لم يحصل أي “تقدّم” في حل مسألة المواقع غير المعلنة المشتبه بأنها شهدت أنشطة غير مصرّح عنها.

أوروبا تراجعت عن إفراطها بالتفاؤل بإبرام الاتفاقية مع إيران والتي كان من شأنها أن تساعد أوروبا في سدّ ثغرة احتياجاتها من النفط والغاز. فإيران تبدو وحدها القادرة على إنقاذ الوضع بسهولة لأن لديها من الاحتياطي النفطي ما يمكّنها من تسليم نفطها الى أوروبا فوراً تعويضاً عن خسارة أوروبا النفط الروسي دفعةً واحدة، بدلاً من خطوة بخطوة كما كان في ذهن أوروبا. فالرئيس الروسي صعّد بحيث يمكن له أن يؤذي الاقتصاد الأوروبي ويسبب أزمة سياسية واضطرابات اجتماعية في الدول الأوروبية بسبب الصقيع والتوتّر الاقتصادي الناتج من الحرب الأوكرانية بين حلف شمال الأطلسي (ناتو) وروسيا.
الذين يعتقدون أن الصفقة مع إيران آتية بالرغم من العراقيل والتأزم يؤمنون أن احتياجات أوروبا الى النفط الإيراني ستؤدّي الى مناشدة حازمة للرئيس الأميركي جو بايدن بأن يفعل المستحيل لضمان الصفقة مهما كان. هؤلاء يرون أيضاً أن التهديدات الإيرانية بالانتقام بشتى الوسائل ستساهم في الضغط على بايدن ليضغط بدوره على الوكالة الدولية للطاقة الذريّة كي تزيل العقبة النووية أمام الاتفاق.

ليس بهذه السرعة”، يقول معسكر المعارضين للتنازلات الأميركية النووية أمام إيران وللضغوط الأوروبية على إدارة بايدن. رأي هذا المعسكر هو أن لا مجال أمام إدارة بايدن للانحناء أمام إيران ولا أمام أوروبا نظراً لخطورة المسألة، ليس فقط نووياً وإنما أيضاً على مستقبل الحزب الديموقراطي في الانتخابات النصفية والرئاسية- فهذا خط أحمر.

ثم هناك اسرائيل التي تودّ أن تتباهى وتترك الانطباع أنها نجحت في الإطاحة بصفقة سيّئة مع إيران. والسؤال هو إذن: ماذا بعد؟ ماذا بعد إفشال الصفقة، إذا ما فشلت حقاً، أو إزاء نجاحها إذا انقلبت الأجواء وزال التأزم؟
اندلاع حرب بين إيران وإسرائيل وارد لأن إيران ستستاء جداً من انهيار تطلعاتها الى تنفيذ برنامج النهضة الاقتصادية وقد تجد الفرصة مواتية لإظهار قوتها العسكرية الجديدة أمام إسرائيل والعالم إثباتاً لدورها الاقليمي الصاعد.

سكتت إيران أمام عمليات القصف الإسرائيلية لمواقعها الحيوية في سوريا في الفترة الأخيرة، أولاً لأنها كانت حريصة جدّاً على مستقبل المفاوضات النووية وصفقة رفع العقوبات عنها، وثانياً لأن روسيا طلبت من إيران ألا تقع في فخ الاستفزازات الإسرائيلية لها في سوريا، وثالثاً لأن الحديث وراء الكواليس كان يدور في تلك التفاهمات الخفية بين إيران وإسرائيل على هامش الصفقة النووية.

اليوم، ليس مستبعداً أن تنتقم إيران من انهيار صفقة رفع العقوبات عنها وتدمير مشروع النهضة الاقتصادية وذلك عبر عملياتٍ ضد إسرائيل عبر الجبهتين السورية واللبنانية، كما في عمليات أمنية في المياه الخليجية. هناك من يعتقد أن إيران جاهزة لمواجهة عسكرية مباشرة مع إسرائيل- وهذا ليس مستبعداً. إنما هناك من ينظر الى كلفة مثل تلك الحرب ليستبعد مغامرة إيرانية من هذا المستوى.

إسرائيل بدورها قد تجد في حربٍ مباشرة مع ايران ثمناً باهظاً، فتتردّد وتكتفي بحروبها بالنيابة في ساحات سوريا ولبنان من جهة وبعمليات انتقائية ضد مواقع نووية في الداخل الإيراني. إسرائيل تحبّذ أن توفّر لها الولايات المتحدة غطاءً جويّاً لعملياتها داخل إيران، إنما إذا فشلت في ضمان ذلك الغطاء، قد تكتفي بعمليات استخبارية هنا وهناك داخل إيران.

لبنان قد يصبح الجبهة الساخنة إذا ما قرّرت الجمهورية الإسلامية الإيرانية إصدار الأمر الى “حزب الله” بتعطيل ترسيم الحدود البحرية اللبنانية – الإسرائيلية ومنع إسرائيل من استخراج النفط والغاز على الحدود البحرية مع لبنان. عندئذ، وفي غياب تفاهمات المهادنة بين إيران وإسرائيل، لن تغضّ إسرائيل النظر عن الصواريخ الإيرانية لدى “حزب الله” ولا عن تحوّل لبنان الى شبه قاعدة عسكرية لإيران. مشكلة إسرائيل جزئياً تكمن في تخزين الصواريخ والذخائر وسط أحياء مدنية في المناطق المسيحية والإسلامية على السواء، لكن هذا لن يثنيها إذا ما اندلعت المواجهة بين إسرائيل وإيران أو بين إسرائيل و”حزب الله”. تصريحات المسؤولين الإسرائيليين المتكرّرة واضحة وإنذاراتها الى لبنان واللبنانيين لا يُستهان بها.

بالرغم من كل ذلك، لن يكون قرار الحرب سهلاً، لا على إسرائيل ولا على إيران. وقد يكون استمرار الوضع الراهن أفضل السيناريوات نتيجة التطورات الجيوسياسية.
فإيران ماضية في بيع نفطها الى الصين والهند وغيرهما بأسعار عالية، وهكذا يمكن لها التعويض عن عدم رفع العقوبات بـ”قبّة باطٍ” أميركية. بل قد تقرّر طهران أن عدم عرقلتها ترسيم الحدود اللبنانية – الإسرائيلية سيكون لصالحها اقتصادياً لأن مردود استخراج النفط والغاز للبنان قد يريحها من تكاليف “حزب الله” الباهظة.

إسرائيل أيضاً تفضّل ضمان استخراج نفطها وغازها على مواجهة عسكرية مُكلِفة. ولذلك قد تسير في خطى المهادنة التقليدية التاريخية بينها وبين إيران. وقد يريحها استمرار الوضع الراهن لا سيّما إذا تمكّنت من القيام بعمليات استخبارية تحول دون تطوّر البرنامج النووي الإيراني. ففي نهاية المطاف، إن الردع النووي الإيراني – الإسرائيلي بات المعادلة. على أي حال، إن عودة الوكالة الدولية للطاقة الذرية الى دق ناقوس الخطر من برنامج إيران النووي حوّل الأزمة النووية مع إيران الى مسألة دولية، وليس مسألة إسرائيلية حصراً.

أوروبا هي الأقل ارتياحاً لاستمرار الوضع الراهن لأنها تقع في المأزق الروسي – الأوكراني ولأنها قد لا تحصل على النفط الإيراني سواء وقّعت الصفقة أو فشلت جهودها.
ما تخشاه أوروبا هو أن يتمكن فلاديمير بوتين من تفكيك الغرب وشق صفوف الاتحاد الأوروبي. تخشى ما سيأتي به الشتاء من ردود فعل شعبية في ديارها قد تسقط حكوماتها. فموسكو تودّ كثيراً إزاحة قادة في أوروبا تعتبرهم معادين لروسيا. وألمانيا في الطليعة.

الرئيس الأميركي ليس في غاية الارتياح في هذا المنعطف بعدما تأزّمت الأوضاع وبات الفشل يلاحق الصفقة النووية مع إيران والتي كرّس لها جهوداً كبيرة. لكن هذا لا يعني أن استمرار الوضع الراهن هو نهاية المطاف أو أنه أسوأ السيناريوات لجو بايدن وفريقه. فاستمرار العقوبات على إيران خيار وقرار يمكن لبايدن أن يستخدمه لصالحه ليتجنّب الإنزلاق الى مواجهة عسكرية وليترك لإسرائيل حرية التصرّف إذا برزت الحاجة.
 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى