تنطلق غداً جلسات مناقشة الموازنة لعام ٢٠٢٢، ونحن، للتذكير، في منتصف أيلول. وما يجدر التوقف عنده، قبل أن تبدأ عمليّة “فرم” مشروع الموازنة على لسان بعض النواب، إمّا عن حقّ أو لضروراتٍ شعبويّة، أنّ البادئ بتلك المهمّة كان رئيس لجنة المال الموازنة النائب ابراهيم كنعان نفسه، الذي يتحدّث مطوّلاً عن مساوئها، وكأنّها يقول، قبل النقاش والإقرار، اللهم إنّي بلّغت.
يغسل كنعان يديه من “دم” الموازنة. أحالتها لجنته الى الهيئة العامّة من دون إقرارها، على الرغم من عمليّة التجميل التي أجرتها للمشروع. لا يُصلح العطار ما أفسده الدهر، فحافظت الموازنة على بشاعتها، على الرغم من التجميل الذي أتى بعد إلغاء ٢٧ مادة وتعديل ٣٧ وتعليق ١٤، وغالبيّة هذه المواد تتضمّن رسوماً وضرائب.
أولى المساوئ تكمن في غياب الرؤية الاقتصاديّة. هي موازنة تجميع أرقام، بلا رؤية وبصيرة. وثانيها أنّها وردت خارج المهلة الدستوريّة، وثالثها أنّها تتألف من أربعة فصول، ثلاثة منها مجرّد نصوص حُشرت فيها. ورابعها عدم واقعيّة الواردات المقدّرة في ضوء حالة الانكماش الاقتصادي. وإن استمرّينا في العدّ لأطلنا، ولهذه الغاية أعدّت لجنة المال تقريراً مفصّلاً عدّدت فيه سلبيّات مشروع الموازنة وتوقّفت فيه عند الزيادة العشوائيّة في الرسوم والضرائب، من دون الأخذ بعين الاعتبار العدالة الاجتماعيّة وارتفاع نسبة البطالة وتدنّي نسبة النمو…
ويتوقّف كنعان عند الارتباك في السلطة التنفيذيّة، فلا موقف موحداً من توحيد سعر الصرف ولا من الدولار الجمركي، وهذا الأمر يفقد الموازنة واقعيّتها، ونكاد نقول جدواها.
وكان لافتاً أنّ اللجنة طلبت من الحكومة تخفيض نفقات وواردات مشروع الموازنة، على ضوء عوامل عدّة، من أبرزها انقضاء أكثر من سبعة أشهر من السنة الماليّة ٢٠٢٢، وبالتالي اقتصار تحصيل الواردات المقدّرة على أربعة أشهر على أبعد تقدير.
وقد استوقف اللجنة وضع رواتب موظفي القطاع العام وانعكاسها على أداء الإدارة في ضوء انخفاض القدرة الشرائية لهذه الرواتب بنسبة تزيد عن 2300%، لدرجة ان الراتب، مهما بلغت قيمته، لم يعد يكفي حتى لانتقال الموظف يومياً من منزله الى مركز عمله.
كما استوقفت اللجنة طريقة معالجة الحكومة لموضوع الرواتب بتخصيص العاملين في القطاع العام والمتقاعدين بمساهمة اجتماعية تعادل قيمة راتب واحد ضمن حدّين أدنى وأعلى.
وقد تداولت اللجنة بحلّ مؤقت الى حين إعادة النظر بسلاسل الرتب والرواتب، يقضي بمضاعفة الرواتب ثلاث مرات، أي إعطاء الموظف ثلاثة رواتب حالية، لا يدخل منها في حساب معاشات التقاعد سوى الراتب الأساسي الحالي، إلا أن الحكومة تمسكت بالتدابير التي باشرت بتنفيذها، فعلّقت اللجنة المادة المذكورة وتركت أمر البتّ بها للهيئة العامة، علماً بأن كلفة الحل الذي تداولت اللجنة به تبلغ 2460 مليار ليرة شهرياً في حين أن كلفة تدابير الحكومة، أي الراتب مع المساعدة الاجتماعية المعادلة للراتب، تبلغ 1490 مليار ليرة شهرياً، كما أفادت وزارة المالية.
لقد كانت لجنة المال والموازنة، برئاسة النائب ابراهيم كنعان، أمام الاختيار بين السيء والأسوأ. السيء هو السير بالموازنة كما هي. الأسوأ ألا تكون هناك موازنة والاستمرار في الصرف على قاعدة الإثني عشرية. بين الخيارين، فضّل كنعان أن يُحال مشروع الموازنة الى الهيئة العامة لمجلس النواب، من دون إقرارها.
يبقى السؤال: كيف لحكومة أن تحيل هكذا مشروع موازنة منفصل عن الواقع الذي نعيش فيه؟
يملك مصدرٌ نيابي الجواب الشافي: “هكذا حكومة فاقدة الوعي تنتج هكذا موازنة”…