الجريمة ليست مجرّد خيار فردي. للوضع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي اثر عميق على سلوك الناس ودوافعهم للضلوع في أفعال يجرّمها القانون. صحيح ان معدّل بعض الجرائم في لبنان يزداد في مناطق لا تحظى باهتمام الدولة ويعاني أهلها من البطالة والعوَز، غير ان انهيار قيمة العملة الوطنية وتفاقم الازمة المعيشية يزيدان مستوى الجرائم في كل لبنان بشكل مستمر منذ عام 2019. أخطر ما في الامر حرمان كثير من المراهقين من المدرسة والتعليم لعدم تمكن الاهل من تغطية كلفتها، وبسبب لجوء كثر من الفقراء الى عمالة الأطفال. سنسعى في ما يأتي الى تفسير بعض النشاط الجنائي المتزايد للمراهقين بحسب علم الجريمة وبعض عناصر صناعة البيئة الجنائية في الشارع.
في إحدى زوايا سوق صيدا الشعبي، يجلس أبو فادي (46 عامًا) أمام عربة للخضار. ولداه – أكبرهما عمره 13 عامًا – يناديان لجذب الزبائن. يبدو على هيئتهما وكأنّهما لم يأكلا وجبة كاملة منذ أيام. يقول أبو فادي إنّه لم يرسلهما إلى المدرسة منذ عامين، ولا قدرة لديه على تسجيلهما هذا العام أيضًا. يؤكّد أنّه حاول، لكن «ما باليد حيلة. الوضع تعيس، مين باله بالمدارس؟ الشنطة بـ 400 ألف ليرة، علبة التلوين بـ 100 ألف. الأوتوكار طلب مليون عالولد، ما عندي غير هالعرباية، شو باخدهم وبجيبهم عليها؟ خلّيهم معي بالشارع بيتعلّموا المصلحة وبيجيهم شغل برّاني، شو فيني أعمل؟».
الفقر والحرمان عنصران أساسيان في انحراف الأحداث وميولهم إلى ارتكاب الجريمة. إذ أن افتقارهم إلى حاجاتهم الأساسية وإلى تطوّرهم النمائي السليم، يضعهم أمام حالة من الإجهاد والتوتر، والشعور الدائم بالإحباط، لانعدام الموارد المالية التي تعد الوسيلة الوحيدة لتلبية احتياجاتهم ورغباتهم من خلال الطُرق المشروعة، وهذا ما يجعلهم أكثر ميلًا إلى ارتكاب الجريمة من الأحداث من أبناء العائلات الميسورة الذين يتمتعون بسهولة الوصول إلى كل ما يرغبون بوسائل مشروعة.
لكن، لا يوجد توجه نظري واحد يمكن أن يشرح بشكل كافٍ المتغيرات والعوامل المتعددة التي تسبب السلوك الجنائي لدى الأحداث والمراهقين. لذلك أخذ علماء الجريمة أجزاء من النظريات الاجتماعية المختلفة وجمعوها لشرح الجريمة والانحراف. وقبل الدخول في تفاصيل النظريات، قد يكون من الأولى عرض العوامل الاجتماعية المساهمة في السلوك الإجرامي.
دوافع اجتماعية واقتصادية
تُحدد الأدبيات الجنائية مجموعة من العوامل البيئية باعتبارها مرتبطة بالسلوك الإجرامي للأحداث والمراهقين. وهي تشمل العوامل الإنمائية، الاجتماعية، والاقتصادية.
في ظل المشكلات الاقتصادية والضائقة المادية التي يعاني منها معظم السكان في لبنان، شهدت الشوارع والأسواق في الآونة الأخيرة طفرة كبيرة في عدد الأطفال والمراهقين البائعين والمشرّدين والمتسوّلين، بلا مدارس ولا حتى أدنى الحقوق الأساسية. ولم يعد الامر يقتصر على أبناء النازحين او اللاجئين او سكان بعض المناطق الفقيرة، بل تعجّ شوارع بيروت اليوم بالعديد من طلاب المدارس الذين حُرموا من متابعة دراستهم. وقد راقبنا بعضهم يحدقون بحزن الى أولاد من العمر نفسه يتنقلون مع أهاليهم في سيارات فخمة ويذهبون الى المدارس الخاصة.
ويضاف إلى ذلك، التفكك العائلي والعنف الذي يتعرض له الأطفال في بعض العائلات، نتيجة التوتر الذي يسببه الحرمان، ما يؤدي إلى استخدام الأولاد والمراهقين في شبكات التسوّل المنظّمة التي زاد انتشارها منذ بداية الازمة المعيشية الخانقة.
إن سوء التغذية المرافق للفقر هو أيضاً جانب مقلق بشكل خاص ومؤثّر على التطوّر النمائي للأطفال. فمن الممكن أن يؤدي نقص التغذية إلى مشكلات لديهم مثل صعوبات في الإدراك، وضعف التحكم في الإنفعالات أو تفاقمها. وقد تمّ تحديد هذه الاختلالات المعرفية واضطراب وظائف الدماغ على أنّها بوادر للجنوح لدى بعض الأحداث.
الانحراف اللامعياري
يجنح بعض الأحداث إلى الانحراف لأنهم لا يملكون الوسائل والطُرق لإسعاد أنفسهم وتلبية احتياجاتهم. ونظرًا لوجهة نظرهم المحدودة، غالبًا ما يجدون أن أهدافهم غير قابلة للتحقيق وأنهم عاجزون، لذلك يلجأون إلى وسائل غير قانونية لتحقيق أهدافهم. فعلى سبيل المثال، الحدث الذي يحلم بشراء حذاء رياضي وليس لديه المال الكافي لذلك ولا يمكنه تحصيل المال من اهله او من التسوّل، قد يقرر الحصول على الحذاء بطريقة تخالف المعيار السلوكي الذي يفترض ان يتعلمه في البيت والمدرسة. لذلك قد يستدين او يسرق او يبيع أغراضاً ليست ملكه او يقرر الانتساب الى عصابة سرقة او بيع مخدرات او غير ذلك من الاعمال الجنائية. ويسمي علماء الجريمة هذه الظاهرة بـ«الانحراف اللامعياري». وقد عمل الباحث الأميركي روبرت ميرتون في اربعينات القرن الماضي على تطوير هذا المفهوم تمهيداً للبحث عن علاجات مناسبة. وشرح ميرتون انه كلّما توسّعت الهوّة بين الوسيلة والهدف كلما زادت نسب الانحراف اللامعياري.
اثر البيئة الفرعية (Subculture)
ما إن تحوّلت إشارة المرور إلى اللون الأحمر حتى صرخت «لولو»، ابنة الخمسة أعوام التي ترتدي كنزة ملطّخة ببقع الزيت وسروالاً قصيراً ممزّقاً، والتي تفخر بأنّها «المتعلّمة» الوحيدة بين زملائها الأكبر منها سنًا، كونها تلمُّ ببعض حروف الأبجدية العربية: «حمرااااا يلا تعوا»، ليركض عدد من الأطفال والمراهقين باتجاه السيارات المتوقفة. أحدهم يرشّ الصابون السائل على زجاج سيارة، وأخرى تتوسّل لصاحبة السيارة المرسيدس بـ «الله يخليلك هالوج الحلو»، وكأنّهم بذلك ينفذون خطة متفقاً عليها مسبقاً وحيَلاً ابتدعوها وتدربوا على تنفيذها.
ويتبين أن مجموعة من العادات والأعراف والفنون والممارسات تتكوّن لدى بعض الأحداث والمراهقين في الشوارع. إذ يمكن ان يبتدعوا بعض الالفاظ والحركات الخاصة بهم والتي قد لا يفهمها من هم من خارج البيئة الفرعية التي ينتمون اليها. وتُصبح البيئة الفرعية موجِّهًا أساسيًا لسلوكيات الأحداث والمراهقين، اذ انها تُحدد لهم سلوكيات مشتركة ووسائل و«قواعد» لممارسة تلك السلوكيات في ما بينهم ومع الآخرين. وتحدد البيئة الفرعية تقاسم الأرصفة والطرقات بالنسبة للمتسولين وبائعي الورد مثلاً، ويعرّفون بعضهم على أساليب النشل والنصب والاحتيال كما يعلمونهم تعابير ومصطلحات قد لا يعلمون معناها الحقيقي بسبب صغر سنهم.
ينظر المجتمع بالطبع إلى البيئة الفرعية لأطفال الشوارع باعتبارها مخالفة لقيم المجتمع وغير مطابقة للثقافة العامة، وبالتالي تتبلوَر كبيئة فرعية جانحة ومنحرفة. وكان عالم الاجتماع والتر ميلر واحدًا من الذين حللوا البناء التكاملي للبيئة الفرعية الجانحة وبيّن أن الانحراف يمثّل جزءًا لا يتجزّأ منها.
«كتير بشتاق للمدرسة»
رحاب (14 عامًا) بلباسها المرتب النظيف، وشعرها الأشقر المربوط، تداوم كلّ يوم في محيط أبعد بقليل من إشارة المرور قرب “مول” في صيدا، من الثامنة صباحًا وحتى المغيب. هي الابنة البكر لعائلة من خمسة أطفال، أب لبناني مريض يلازم الفراش، وأمٌ سورية الجنسية ترافقها من بعيد كحارس كي لا يتعرّض لها أحد. تركت رحاب المدرسة منذ سنتين.
وهي، بعكس أقرانها المتواجدين بالقرب من الإشارة، تبدو أقل عرضة للاستغلال. تعلم جيّدًا نقاط قوّتها وتستغلّها لاستعطاف أصحاب السيارات المتوقفة. تقول بنبرة أسفٍ: «كتير بشتاق للمدرسة، بس شو بدي أعمل، آجار بيت واشتراك وإخواتي زغار، مش رح إقبل إمي تمِد إيدها.. هيّاني اسم الله عليي، طول وجمال وترتيب، وبطلب مساعدة بتهذيب والحمد لله بتتيسّر». وعما إذا كانت تتعرّض للمضايقات أو التحرّش تقول: «يلّي بيعملوا العمايل بيجوا الصبح بكير وبيطلعوا بالسيارات. أنا ما دخلني بكل يلي هون، والحمد لله ما حدا بيسترجي يقرّب ناحيتي». لكن، إلى متى ستصمد رحاب في وجه الانحراف اللامعياري؟ وهل تبقى صامدة أمام عدم الجنوح الكامل إذا ما تفاقمت الأزمة الاقتصادية أو احتاجت عائلتها إلى مزيد من المال؟ وهل يمكن ان تبقى في منأى عن البيئة الفرعية ام ستنساق اليها شيئاً فشيئاً كما حصل مع بقية أطفال ومراهقي الشوارع؟
«كيّعناهن»…
مع أنّ المادة 618 من قانون العقوبات اللبناني تنصّ على أنّ «من دفع قاصرًا دون الثامنة عشرة من عمره إلى التسوّل جرًا لمنفعة شخصية عوقب بالحبس من ستة أشهر إلى سنتين»، إلا أنّ المشكلة لا تُحلّ بإلقاء القبض على المتسولّين ومستخدميهم، الأمر الذي يؤكده أحد المراهقين المتسوّلين (15 عامًا) رافضًا ذكر اسمه: «بيلقطونا الشرطة وبيفلتونا، تعوّدنا، بس هلّأ تاركيننا على راحتنا، هيّاهن…» مشيرًا إلى دراجَين واقفين لتنظيم السير على الإشارة، مُضيفًا: «كيّعناهن، من السبعة الصبح للوحدة بالليل ونحن هون وما عم يقربوا صوبنا».