أكثر من 60 ألف طالب وطالبة في المهنيات العامة أُبقوا خارج الصفوف في اليوم الاول من العام الدراسي في قطاع التعليم المهني. وعلى عكس المثل القائل اذا عرف السبب، بطل العجب، فإن الاطلاع على أسباب استمرار المعاهد الرسمية مقفلة يثير الذهول والغرابة في آن معاً. ففضلاً عن تنصل الدولة من واجباتها تجاه الأساتذة المتعاقدين ونكوثها بوعودها، فهي تماطل بتوقيع الموازنة المقرّة قبل أكثر من نصف شهر.
يرضى أساتذة التعليم المهني والتقني الرسمي المتعاقدون بـ»همّ» إعطائهم الفتات من حقوقهم المتأخرة لأشهر وسنوات، و»الهمّ» لا يرضى بهم. التنازلات الكثيرة التي قدّموها من «كيسهم» لفتح المعاهد في الموعد المحدد سابقاً، وتأمين عودة طبيعية للعام الدراسي، قابلتها الدولة بإهمال إعطاء الأساتذة حقوقهم المقرّة، والتقاعس عن توقيع موازنة 2022 المتأخرة أساساً عشرة أشهر. وكأنّ الوضع أكثر من طبيعي، ولا شيء مستعجل.
علّة الموازنة
الموازنة التي أقرّت تسديد الدفعات المتأخرة عن العامين الدراسيين 2020/2021 و2021/2022، ورفع بدل الساعة للأساتذة المتعاقدين لم تصبح سارية المفعول بعد، رغم إقرارها في 26 أيلول الفائت. والسبب تأخر رئيس الحكومة في وضع إمضائه عليها لغاية يوم أمس، وعدم معرفة الوقت الذي قد يتطلّبه توقيعها من قبل رئيس الجمهورية ونشرها في الجريدة الرسمية. و»قبل تسديد المتأخّرات مع بدلات النقل وتعويضات المراقبة والتصحيح، لن نعود إلى صفوفنا»، تقول الأستاذة المتعاقدة زكية شمس الدين. «ذلك رغم امتعاضنا الشديد من تعطّل العام الدراسي، واضطرارنا للوقوف بالشارع أمام الوزارات المعنية من التربية إلى المالية. في حين أنّ مكاننا الطبيعي هو الصف وليس الشارع».
ضرب التعليم الرسمي
تعمّد عدم إعطاء الأساتذة المتعاقدين حقوقهم يشكّل الحلقة الثانية، من مخطط ضرب التعليم الرسمي وتفريغه من الطلاب والأساتذة على حدّ سواء. وهذه الخطوة تأتي عقب التوسّع في التعاقد خلال السنوات المنصرمة على حساب التوظيف في الملاك. حتى وصل عدد المتعاقدين في التعليم المهني والتقني إلى 13 ألف معلم ومعلمة، يشكلون حوالى 90 في المئة من الكادر التعليمي. وعليه فهم يشكّلون قوة ضغط هائلة قادرة على شلّ المرفق كلياً، من دون قدرة أساتذة الملاك، الذين ينالون بدلات أفضل بقليل، على الحلول مكانهم أو التعويض ولو جزئياً، عن غيابهم بسبب الإضرابات والاعتصامات للمطالبة بحقوقهم.
وما يزيد القناعة بنيّة الدولة ضرب القطاع العام هو التأخر بإعطاء من تعاقدت معهم لتسيير مرافقها، أبسط حقوقهم لكي يستطيعوا الحضور إلى معاهدهم، لأشهر وسنوات. فالمتعاقدون في التعليم المهني والتقني لم يتقاضوا أي بدلات عن العام الدراسي 2021/2022، وباقٍ في ذمة الدولة لهم 35 في المئة من مستحقات العام الدراسي 2020/2021. هذه المبالغ وتحديداً العائدة منها إلى العام الدراسي 2020/2021 قد أكلها التضخم، وانهيار سعر صرف الليرة اللبنانية أمام الدولار الأميركي من حدود 8000 ليرة إلى 40 ألف ليرة اليوم. ولم تعد تساوي شيئاً»، بحسب عادل حاطوم المتعاقد في التعليم المهني منذ 27 عاماً. و»الـ 8 ملايين ليرة المتبقية من أتعابي كانت تساوي في حينها 1200 دولار، لم تعد تساوي اليوم في حال تسديدها أكثر من 200 دولار أميركي». أما بالنسبة إلى العام الدراسي الماضي فلم نتقاضَ أي ليرة وقد تراجعت أيضاً القيمة الشرائية للمبالغ المتراكمة بأكثر من 30 في المئة».
العودة المؤجلة
ما يجري مع الأساتذة المتعاقدين عامة، وفي التعليم المهني خاصة يشكّل مفارقة غريبة. فبدلاً من أن تقف الدولة إلى جانب موظّفيها وتدعمهم ليعيشوا حياة لائقة، يقفون هم بـ»اللحم الحي» إلى جانب مؤسساتها؛ ليس لحمايتها، إنما للذود عن التلامذة. و»مع اهتراء اللحم بسبب التضحيات التي قمنا ونقوم بها، لم يعد بمقدورنا المتابعة، وأصبح عدم فتح المعاهد نابعاً من الانعدام الكلي للقدرة، وليس الرغبة في التعطيل»، يقول حاطوم. «ولأننا لا نستطيع تقاضي أتعابنا على قاعدة الصرف الاثنتي عشرية، فإن كل ما نطلبه التسريع بتوقيع الموازنة من أجل نيل حقوقنا والعودة إلى صفوفنا».
الأجور يأكلها التضخم
بحسب التسعيرة الجديدة ارتفع أجر الساعة في التعليم المهني إلى 92 ألف ليرة للامتياز الفني، و77 ألف ليرة للبكالوريا الفنية، فيما بقيت تسعيرة المصنّف الجامعي معلّقة بانتظار ردّ الجامعة اللبنانية. ومع هذا فإن المبالغ المقبوضة لا تزال متهاوية بشكل كبير لسببين:
الأول، آلية التسديد المتأخرة، حيث يتقاضى الأساتذة البدلات مرة واحدة مع نهاية العام. ومع التضخم والتراجع المستمرّ في سعر صرف الليرة مقابل الدولار تتراجع قيمة البدلات، وتخسر أضعافاً مضاعفة من قيمتها. وذلك على غرار مع حصل مع متأخرات العام 2020.
الثاني، وجود المعاهد في أماكن بعيدة جداً عن سكن الأساتذة. فعلى عكس المدارس الرسمية والثانويات التي تتألف كوادرها التعليمية من معلمين ومعلمات المنطقة والقرى المجاورة، فإن المهنيات في لبنان عددها أقل نسبياً، وهي مترامية الأطراف. الأمر الذي يكبّد الأساتذة كلفة عالية جداً للإنتقال.
وبحسب الأستاذ المتعاقد حسين فوز فإن «أساتذة التعليم المهني باختصاصات الكهرباء والتمريض والمحاسبة والعلوم الإدارية والفندقية… غير متوفرين في كل الضيع والقرى القريبة من المعاهد. وبالتالي يضطر الأساتذة للانتقال يومياً لعشرات، إن لم يكن مئات الكيلومترات، من أجل الوصول إلى معاهدهم. الأمر الذي يفقد الأجور وبدل النقل الذي لا يدفع قيمتهما. ويصبح دخل الأستاذ مخصصاً فقط للذهاب والإياب إلى عمله من دون القدرة على تأمين بقية متطلبات الحياة… وما أكثرها وأثقلها هذه الأيام!
على الرغم من هذه الأجور الهزيلة، فإن الأساتذة مستعدون للعودة إلى صفوفهم، لأن واجبهم المهني وضميرهم الإنساني يحتّم عليهم ذلك. وكلّ ما يطلبونه هو توقيع الموازنة، ودفع مستحقاتهم بانتظام وبفترات متقاربة لكي لا يذوّبها التضخم، وإعطاؤهم بدل النقل.
المهل التي تستلزمها الإجراءات البروتوكولية البيروقراطية قد تكون مفهومة في الأيام الطبيعية، أما مع ضرب عرض الحائط بالمهل الدستورية لإقرار الموازنة، وفي ظل الإنهيار الشامل على كافة المستويات، فإن اعتماد هذه التدابير يصبح ضرباً من ضروب الجنون، يعمّق الانهيار ويزيد فقدان ثقة المواطنين بالدولة والمسؤولين.