Nouvelles Locales

جنبلاط – عون: الحب المستحيل

صلاح تقي الدين _grandlb

لم يكن سهلاً على رئيس الحزب “التقدمي الاشتراكي” وليد جنبلاط أن “يبلع” انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية في الحادي والثلاثين من تشرين الأول 2016، فللرجلين تاريخ حاول جنبلاط مراراً نسيانه والتغاضي عنه، لكن عون لا يزال يسكنه هاجس انكساره عندما كان قائداً للجيش أمام قوات “جيش التحرير الشعبي” في معارك الجبل، ولم يقبل أن تتم المصالحة الشهيرة في المختارة مع البطريرك الراحل نصرالله بطرس صفير بغيابه وغياب تياره، فاعتبر نفسه غير معني بها وكرّر هذا الموقف صهره رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل مراراً.

والصور الموثقة للاهانات التي تعرّض لها عون في مدينة عاليه في العام 1982 ابان الاجتياح الاسرائيلي للبنان، خير شاهد على ما قد يكون راكم في نفسه من حقد تجاه من اعتبره مسؤولاً عنها (الاهانات) أي جنبلاط، وحاول منذ ذلك الحين “رد اعتباره” أمامه فتعامل معه على أنه الخصم الوحيد الذي يجب الاقتصاص منه.

يروى عن الرئيس الراحل الياس الهراوي أنه في إحدى المناسبات الرسمية التي أقامها في قصر بعبدا بعد تحريره من عون، وصل جنبلاط للتهنئة فتقدّم الهراوي إليه ليستقبله، فما كان من رئيس البروتوكول في القصر إلا أن حاول نهيه عن ذلك باعتباره رئيساً للجمهورية وعلى المدعوين التقدم باتجاه الرئيس، فبادره الهراوي المعروف عنه سرعة بديهته بالقول: “أنا اليوم رئيس بس جنبلاط زعيم قبلي ورح يضل زعيم بعدي”.

ومغزى سرد هذه الحادثة هو للدلالة على بعد النظر الذي كان يتمتع به الهراوي وفقدان هذه الميزة عند عون الذي لم يكن يتعامل مع السياسيين اللبنانيين كافة إلا بفوقية وعناد أوصلا البلاد إلى ما وصلت إليه بسبب طبعه وتنشئته العسكرية على الأرجح، وهو ظل يتصرّف من منطلق “أنا أو لا أحد” وأورث هذه الشخصية إلى “صهره السلطان”.
وكان جنبلاط عندما عقد عون الصفقة الشهيرة مع النظام السوري والرئيس السابق اميل لحود للعودة إلى لبنان من المنفى الفرنسي، قد استبق جميع السياسيين وأطلق على عودة عون وصف “التسونامي” وأثبتت الأيام اللاحقة صحة هذا الوصف، فخلال الانتخابات النيابية التي أجريت في صيف العام 2005، اكتسح عون معظم المقاعد النيابية في الدوائر المسيحية نتيجة خطابه الشعبوي المشهور به.

ومع وصول عون إلى الرئاسة على الرغم من معارضة جنبلاط الذي فرض على نوابه الحزبيين التصويت لصالح التسوية التي عقدها عون مع رئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع في “اتفاق معراب” الشهير ووافق عليها الرئيس سعد الحريري بعد تسوية أخرى عقدها بواسطة ابن عمته نادر مع “الصهر السلطان” جبران، وترك لباقي نواب كتلته الحرية في الاقتراع لمن يشاؤون، حاول الزعيم الدرزي فتح صفحة جديدة من العلاقة مع عون وهادنه من خلال مشاركته في الحكومتين الأولى والثانية للرئيس الحريري.

غير أن “الحب المستحيل” بين الرجلين سرعان ما بدأت معالمه بالظهور من خلال التوتر الذي بدأ يشوب العلاقة بين وزراء جنبلاط ووزراء عون، خصوصاً بعد الانتقادات المتتالية التي كان يوجهها جنبلاط إلى فريق الرئيس حول سوء إدارة ملف الكهرباء الذي أصر عون على أن يكون بتصرّفه، ففاحت رائحة الصفقات المشبوهة من البواخر إلى تعطيل تشكيل الهيئة الناظمة للكهرباء، فأطلق جنبلاط حينها على العهد صفة “فاشل” منذ اللحظة الأولى لبدايته.

ثم تطور هذا التوتر ليشمل ملفات عديدة وتحديداً ملف قانون الانتخابات النيابية الذي فصّله المعنيون على قياس باسيل لانجاحه في دائرة البترون ولتضمينه بنداً يتعلق بالصوت التفضيلي الذي اعتبره جنبلاط بدعة غير مسبوقة، فكان أن أقر القانون النسبي مع الصوت التفضيلي رقم 44/2017 ليصار إلى إجراء الانتخابات النيابية المقررة في العام 2018 على أساسه.
وفي خطوة تعكس إصرار عون ومن خلفه باسيل على الاقتصاص من جنبلاط، بادر رئيس الجمهورية إلى التدخل في الشأن الداخلي الدرزي من خلال الانحياز الواضح إلى جانب رئيس الحزب “الديموقراطي اللبناني” النائب السابق طلال أرسلان ورئيس حزب “التوحيد العربي” الوزير السابق وئام وهاب، معتقداً أنه بذلك يستطيع كسر ميثاقية جنبلاط الدرزية، ودفع أرسلان ووهاب إلى مقاسمته المقاعد النيابية الدرزية، غير أن حسابات حقل عون لم تناسب بيدره.
وباشر باسيل جولاته الانتخابية تحضيراً لمعركة كسر جنبلاط فتوجه إلى عمق مناطق الجبل وأطلق مواقف حادة تجاهه من رشميا وسوق الغرب حيث راح يفتح القبور ويطالب باستعادة الأجراس، وهي النغمة التي كانت سائدة طيلة الفترة التي سبقت عودة عون من المنفى، وذلك في محاولة شعبوية فاضحة لتحفيز المسيحيين على الاقتراع لصالح لائحة “وحدة الجبل” التي شكّلها بالاشتراك مع أرسلان.
لكن النتيجة جاءت على عكس ما كان يشتهيه عون وباسيل، فبالكاد استطاع أرسلان أن يفوز بمقعده النيابي الذي تركه له جنبلاط شاغراً في لائحته، في حين أن وهاب مني بخسارة اتهم عون و”حزب الله” شريكه الآخر بالتسبب بها. وفي خطوة تنمّ عن نية عون الحقيقية، بادر إلى “إعارة” أرسلان ثلاثة نواب “عونيين” ليشكلوا معه كتلة نيابية يكون لها حضورها في الحكومات المتعاقبة في عهده.
لكن على الرغم من ذلك نجحت المساعي التي بذلها وسطاء مقربون من الفريقين في تلبية جنبلاط دعوة تلقاها من باسيل للمشاركة في قداس ما أسماه “التوبة والمغفرة” في دير القمر في آذار من العام 2019، ظناً من جنبلاط أنها محاولة مناسبة لاشراك “التيار الوطني الحر” في مصالحة الجبل، لكن نية باسيل لم تكن حسنة كنية جنبلاط، فاستغل “الصهر السلطان” المناسبة في دليل على الفوقية التي ورثها عن عمه، لتوجيه النقد اللاذع الى جنبلاط مطالباً إياه بـ”التوبة”، فـ”بلعها” جنبلاط لكن مناصريه لم يستطيعوا هضم ما سمعوه.
لم يكد جمر مواقف باسيل ينظفئ حتى بادر بعد ثلاثة أشهر وتحديداً في 30 حزيران 2019 إلى إعادة تسعيره حين قرر القيام بزيارة بالغة الاستفزاز إلى الجبل، بعدما كان قد بث سمومه في المناطق اللبنانية كافة من خلال الزيارات التي قام بها ترافقه مواكب عسكرية وضعت بتصرفه وأثارت امتعاضاً كبيراً لدى المسؤولين كافة، فتوجه برفقة الوزير السابق صالح الغريب المسمّى من أرسلان ليمر موكبه في منطقة قبرشمون حيث وقعت حادثة أليمة أدت إلى سقوط قتلى من الفريقين، اتهم بعدها عون وباسيل، جنبلاط، بأنه أوعز إلى النائب أكرم شهيب بتدبير كمين لاغتيال باسيل.

ولا تزال تداعيات هذه الحادثة مستمرة لغاية كتابة هذه السطور، على الرغم من مبادرة عون إلى جمع جنبلاط والرئيس نبيه بري إلى جانب أرسلان في قصر بعبدا في محاولة لطي صفحة قبرشمون سياسياً، غير أن القضية القضائية لا تزال موضع أخذ ورد بسبب التدخل الفاضح في عمل القضاء من فريق الرئيس ورفض أرسلان تسليم المتهم من فريقه الذي تسبب بحادثة سابقة وقعت بين “الاشتراكي” و”الديموقراطي” في مدينة الشويفات، وزاد الطين بلة الاضراب الذي أعلنه قضاة لبنان اعتراضاً على تدهور قيمة رواتبهم وسوء وضعهم الاجتماعي نتيجة الأوضاع الاقتصادية التي يمر بها البلد بسبب سياسات “العهد القوي”.
غير أن جنبلاط الذي يسكنه هاجس المصالحة في الجبل ويعمل بكل ما في قدرته في سبيل المحافظة عليها، حاول أن يكسر من حدة التشنج القائم بين بعبدا والمختارة فقام بزيارة تقليدية إلى قصر بيت الدين في صيف ذلك العام لمناسبة انتقال الرئيس عون إلى مقر الاقامة الصيفي لرؤساء الجمهورية، لكن الأخير لم يبادر إلى رد الزيارة كما درجت العادة من كل الذين تعاقبوا على المنصب الأول من قبل، وفي ذلك مؤشر على حقيقة ما يضمره عون تجاه جنبلاط.

وعاد التوتر إلى العلاقة بين الرجلين ورفع جنبلاط شعار “إسقاط العهد الفاشل” محذراً من انهيار الوضع الاقتصادي وانهيار البلد، كما صعّد الحزب “الاشتراكي” من لهجة خطابه السياسي فطالب بإسقاط عون وكان سباقاً في تنظيم تظاهرة حاشدة في 14 تشرين الأول 2019 مناهضة للعهد وسياساته، سبقت التظاهرة الكبرى في 17 تشرين الأول من العام نفسه والتي سميّت “الثورة الشعبية”.

وبعد هبوب العاصفة، حاول جنبلاط سحب وزرائه من حكومة الرئيس الحريري وتقديمهم استقالاتهم، لكنه تمهّل في إعلان هذا الموقف بانتظار التشاور مع الحريري الذي سبقه وأعلن استقالة حكومته تلبية للمطالب الشعبية.

وبات واضحاً منذ ذلك التاريخ أن جنبلاط قرّر خوض المعركة الأخيرة في وجه العهد وعون، لكن انتشار وباء كورونا وانهيار الليرة ودخول البلاد في أزمة غير مسبوقة، دفعت رئيس “الاشتراكي” إلى محاولة تهدئة الحرب السياسية ضد العهد فلبّى طلب الوسطاء وزار قصر بعبدا ليبحث مع عون في الملف الاقتصادي الذي بات الهم الأول له وأطلق موقفاً داعماً للمبادرة الانقاذية التي أطلقها الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، داعياً الى المحافظة عليها باعتبارها الفرصة الأخيرة.

غداً، تنتهي ولاية عون ويعود إلى الرابية رئيساً سابقاُ وسيحاول كما بات مكشوفاً تعزيز “شعبية” صهره التي فقد منها الكثير نتيجة سياساته العشوائية ووضوح مطالبه التعطيلية، وليس معروفاً ما إذا كان سينجح في ذلك، لكن جنبلاط سيبقى في المختارة زعيماً كبيراً يحسب له ألف حساب في السياسة الداخلية، كما توقع الرئيس الراحل الياس الهراوي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى