Nouvelles Locales

بأية حال عُدتَ يا عيد؟

تحلّ اليوم الذكرى التاسعة والسبعون لنيل لبنان استقلاله عن فرنسا والوطن يمر بأسوأ أحواله فيما يردد بعض اللبنانيين “عيد بأية حال عدت يا عيد”، أما البعض الآخر فوصل به اليأس الى درجة أنه يترحم على أيام الانتداب ويتمنى لو أن “الأم الحنون” بقيت على انتدابها للبنان.

 

هذا واقع وليس ضرباً من الخيال، فبعد أن نال لبنان استقلاله فشل المسؤولون في العبور إلى الدولة التي كان اللبنانيون يأملون فيها من حيث استقلاليتها وسيادتها وازدهارها. فلم تكد السنوات الأولى من عهد الرئيس الأول الشيخ بشارة الخوري تنقضي حتى راودته أحلام التمديد، هذه الآفة التي راودت معظم الرؤساء من بعده وكانت سبباً مباشراً للفوضى والاضطرابات الأهلية التي ولّدت نقمة تحولت إلى مواجهات دموية.

 

وبعد تقديم الشيخ بشارة استقالته تحت ضغط الشارع نتيجة “الثورة البيضاء” التي قادها الراحلان كمال جنبلاط وكميل شمعون بسبب الفساد الذي استشرى عبر مؤسسات الدولة الحديثة الولادة، تولى السلطة الرئيس كميل شمعون الذي، وإذ يعترف له بأنه حقق في سنوات حكمه الأولى مشاريع تنموية جيدة وعاش البلد ازدهاراً اقتصادياً مشهوداً وتحوّل إلى مصرف العرب وجامعة العرب ومستشفى العرب، إلا أن “سوسة” التمديد ضربته فكانت نتيجتها الثورة الدموية الأولى في العام 1958.

 

واستمر الازدهار ينمو في عهد الرئيس اللواء فؤاد شهاب الذي أنشأ فعلياً دولة المؤسسات من مصرف لبنان إلى هيئة التفتيش المركزي إلى مجلس الخدمة المدنية إلى مؤسسة الضمان الاجتماعي وغيرها، لكن التزام شهاب بـ”الكتاب” وحرفيته، أي ما ينص عليه الدستور اللبناني، دفعه إلى التنحي ورمى “سوسة” التمديد من باله، فأنهى ولايته في العام 1964 وهو يعبّر عن خشيته من الأيام السود التي تنتظر لبنان، كما نقل عنه.

وفي عهد الرئيس شارل حلو الذي وصفه الصحافي والديبلوماسي الفذّ الراحل غسان تويني بـ “الراهب في غير محله”، حلّت نكبات إقليمية كبرى قوّضت من قدرته على استكمال بناء الدولة نتيجة النكبة التي شهدها العالم العربي في العام 1967 واستتبعت بـ “اتفاق القاهرة” في العام 1969 الذي كان المحطة الأولى من فقدان السيادة الحقيقية والاستقلال الناجز، ثم وفاة الزعيم العربي جمال عبد الناصر الذي خلّف ترددات داخلية كبيرة على لبنان.

 

وبعد انتخابات رئاسية ديموقراطية حقيقية أولى وخيار لبناني محض، وصل الرئيس سليمان فرنجية إلى سدة الرئاسة ولم ينهِ عهده إلا وكانت الحرب الأهلية اللبنانية قد استعرت، والتي أيضاً أسماها الراحل تويني “حرب الآخرين على أرض لبنان” ومعه بدأ البلد يخضع لاحتلالات مختلفة بدأت مع الاحتلال السوري “الأخوي” في العام 1976.

 

ومع ذلك، أجريت انتخابات رئاسية أوصلت الرئيس الياس سركيس إلى قصر بعبدا، وحاول طيلة ولايته “إدارة الأزمة” وإمساك العصا من منتصفها، حتى جاء الاجتياح الاسرائيلي الأول في العام 1978 ونشوء ما يسمى بـ “جيش لبنان الجنوبي” الذي اقتطع جزءاً عزيزاً من أرض لبنان وأتبعه بالاحتلال الاسرائيلي قبل أن تجتاح قوات العدو الصهيوني لبنان لطرد منظمة التحرير الفلسطينية منه، فكانت ذكرى الاستقلال بين سنوات 1978 و1982 فاقدة لمعناها بوجود احتلال صهيوني على أرضه.

في كل هذه السنوات كان لبنان يحيي ذكرى الاستقلال في ظل وجود رئيس منتخب، وحكومة فاعلة ومكتملة الصلاحيات، ومجلس نيابي يصار إلى انتخابه كل أربع سنوات وفي بعض الحالات كان يشوب هذه الانتخابات تزوير فاضح كما في عهد الرئيس الخوري في العام 1947 وفي عهد الرئيس شمعون في العام 1957، ما يجعل هذه الذكرى تفتقر إلى معناها الحقيقي.

 

ووقعت الطامة الكبرى عند نهاية عهد الرئيس أمين الجميل حين لم يستطع مجلس النواب الانعقاد لانتخاب خليفة له في العام 1988، فنصّب قائد الجيش آنذاك العماد ميشال عون رئيساً لحكومة انتقالية مهمتها انتخاب رئيس جديد للجمهورية وهو ما رفض القيام به لأن حظوظه بتولي الرئاسة كانت معدومة، وبدأ مسلسل ذوبان الاستقلال الحقيقي معه.

 

وبعد اتفاق الطائف الذي أضحى دستوراً معمولاً به، وانتخاب الرئيس الياس الهراوي خلفاً للرئيس الشهيد رينيه معوض، رئيس الطائف الأول، كان الاحتفال بذكرى الاستقلال تشوبه غصة استمرار الاحتلال الاسرائيلي لجزء كبير من أرضه من جهة، ووجود القوات السورية ونفوذها الواضح على السياسة العامة للدولة اللبنانية من جهة أخرى.

 

ومع حلول العام 2000 ونجاح المقاومة في تحرير جنوب لبنان، عاد الأمل في عودة المعنى الحقيقي للاستقلال، لكن الغصة استمرت لأن حامل راية المقاومة ظلّ يعتبر أن جزءاً إضافياً من لبنان لا يزال محتلاً ويتمثل في مزارع شبعا وتلال كفرشوبا.

ومع خروج الاحتلال السوري من لبنان في العام 2005 عقب اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، أصبح لبنان محرراً من الاحتلالين اللذين نغصا عيشة أهله منذ العام 1978، لكن هذا التحرير استبدل بهيمنة واضحة من “حزب الله” على قرارات الدولة السيادية في ظل وجود سلاحه، ما يجعل ذكرى الاستقلال فاقدة لمعناها الحقيقي.

 

وهذا هو الحال اليوم، لكن المشكلة لا تكمن في هيمنة الحزب فحسب، بل أيضاً في وجود حكومة مستقيلة وشغور رئاسي يخشى أن يكون مديداً، فلم يحتفل لبنان الرسمي اليوم بالذكرى التي درجت العادة على أن تكون من خلال “استعراض” عسكري ثم حفل استقبال في القصر الجمهوري.

 

يحق للبنانيين أن يستعيدوا مقولة “بأية حال عدت” ويمكن إضافة عبارة “إلى متى” سيستمر لبنان من دون استقلال حقيقي تكون فيه الدولة صاحبة القرار الوحيد على أراضي الجمهورية اللبنانية كافة، ولا يكون بعض أبناء لبنان “بسمنة” والبعض الآخر “بزيت”؟ لكن الأكيد أن هذا يبدأ بانتخاب رئيس جديد للجمهورية يكون “مصمماً” على استعادة هيبة الدولة وإعادة بناء مؤسساتها التي نخرها “سوس” الفساد والزبائنية، واستعادة موقع لبنان الطبيعي في محيطه العربي وثقة المجتمع الدولي به من خلال تنفيذ إصلاحات مطلوبة بصورة جدية.

 

هل سيكون لبنان مستقلاً في العام المقبل؟

المصدر صلاح تقي الدين لبنان الكبير

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى