كثُر الحديث منذ حطّ الإنهيار أوزاره على كاهل الإقتصاد عن ضرورة التحوّل من الإقتصاد الريعي إلى المنتج. المنظّرون الذين تسابقوا على نبذ العوائد القائمة على الخدمات والفوائد المصرفية، حثّوا المواطنين على خوض غِمار الإنتاج الصناعي والزراعي. حتى أن التجييش وصل بالبعض إلى المناداة بزراعة «البلاكين» لتأمين الإكتفاء الغذائي الذاتي.
التعبئة الإقتصادية على مدار أشهر الأزمة الأولى، لم تتعد كونها «عاصفة في فنجان». ليس لأنها لم تترافق مع تطبيق خطة جدية كتلك التي أعدتها «ماكينزي» فحسب، إنما لفقدان بعد النظر لدى الساسة والمسؤولين وصناع القرار، وافتقارهم إلى أبسط المعارف في ما خص طريقة عمل الاقتصاد المنتج. فقد رفضت وزارة المالية إقتراح قانون ينص على إعفاء المصانع اللبنانية موقتاً من بعض الضرائب والرسوم بشروط معينة لتحفيزها على زيادة الانتاج والتوسع. والحجة أن مثل هذا الإجراء يحرم الخزينة من مداخيل هي بأمسّ الحاجة إليها حالياً. فأصاب البلد كمن علق في حفرة باردة وإلى جانبه سلم خشبي. بدلاً من أن يستعمله للخروج من المأزق الذي هو فيه، فضل تقطيعه وحرقه ليشعر بالدفء موقتاً. إذ من الواضح أن المسؤولين لم يأخذوا بالإعتبار العوائد المستقبلية من زيادة الانتاج لتأمين حاجة السوق المحلية والتصدير، ولا حجم فرص العمل التي يمكن ان يولدها دعم المصانع. فانحصر همهم بـ»مص ضرع» القطاعات الانتاجية، ولو أدى ذلك إلى جفافها ومفاقمة المشكلة. والأخطر أن هناك صناعيين مثل شركة «قساطلي» التي بدأت تنقل أعمالها حالياً الى قبرص لأنها حصلت هناك على اعفاءات وحوافز جعلتها تترك لبنان.
رفض «المالية»قبل نهاية نيسان من العام 2021 تقدم النائب فريد البستاني باقتراح قانون يرمي الى منح إعفاء موقت لجميع الشركات والمؤسسات الصناعية في لبنان من ضريبة الدخل المتوجبة عليها، من أجل تشجيعها وتحفيزها والمساعدة في تقديم الدعم للصناعة الوطنية. وقد أُعدّ الإقتراح بدفع من صناعيين ممثلين في تجمع الصناعيين في البقاع. وبعد إقرار الإقتراح من قبل لجنة الاقتصاد والتجارة والصناعة والتخطيط النيابية، رفضت وزارة المالية الموافقة عليه لأنه يحرمها من جزء من الإيرادات الضريبية. هذا مع العلم أن التحول من النموذج الريعي الى النموذج المنتج في الاقتصاد، يتطلب دعم الصناعة الوطنية وتحفيزها على الإنتاج»، تقول المحامية التي صاغت مقترح القانون د. جوديت التيني. و”هو الأمر الذي ينعكس إيجاباً على الاقتصاد ككل من خلال جذب التدفقات النقدية بالعملة الصعبة، واستقطاب الاستثمارات الخارجية الى لبنان. ويساعد على إخراج لبنان من النظام الإقتصادي السابق الذي أثبت فشله”.
أكثر من ذلك فان «إقرار هذا القانون سيؤدي في حال تطبيقه الى تكوين المعلومات حول رقم أعمال الشركات والمؤسسات الصناعية في لبنان. ما يحد في المستقبل من التهرب الضريبي المتمثل بامتناع تلك الشركات والمؤسسات عن تقديم التصاريح الحقيقية للإدارة الضريبية، فتحقق الخزينة جزءاً من وارداتها الضريبية التي تساهم في خفض عجزها»، تضيف التيني، “كما انّ مساندة القطاع الصناعي، عن طريق هذا القانون، يشجّع الشركات والمؤسسات الصناعية في لبنان على استخدام وتوظيف اللبنانيين بنسب عالية جداً لا تتدنى عن 80 في المئة من اليد العاملة في المصنع. الأمر الذي يحد من أزمة البطالة المتفاقمة وخصوصاً بين أوساط الشباب وفي الفئة العملية التي تتراوح بين 20 و40 عاماً”.
المادة الأولى: خلافاً لأي نص آخر، تعفى جميع الشركات والمؤسسات الصناعية في لبنان من كامل ضريبة الدخل المتوجبة عليها على كامل أرباحها السنوية لمدة ثلاث سنوات ابتداءً من تاريخ نشر هذا القانون، بناءً على طلب يقدّم الى الإدارة الضريبيّة المختصّة، شرط أن يكون 80 في المئة على الأقل من العاملين لديها من اللبنانيين. وعلى الشركات والمؤسسات المستفيدة من الإعفاء، وضمن المهل القانونيّة المحدّدة في قانون ضريبة الدخل، أن تتقدّم بالتصاريح عن نتائج الأعمال السنوية، وأن تحتفظ بالسجلات والمستندات كافّة العائدة لمحاسبتها عن مدة الإعفاء لمدة 10 سنوات وفقاً لأحكام المادة 30 من القانون رقم 44 تاريخ 11/11/2008 (قانون الإجراءات الضريبيّة). وتمارس الدائرة الضريبيّة المختصة رقابة دائمة على الشركات والمؤسسات الصناعيّة المستفيدة من الاعفاء، بغية التثبّت من تقيّدها بشروط الاعفاء. وفي حال استفادة الشركات والمؤسسات الصناعيّة من أيّ اعفاءٍ من ضريبة الدخل على الأرباح (ضريبة الباب الاوّل) او من التخفيض على أرباح صادراتها الصناعية اللبنانية المنشأ، وفقاً لما تنصّ عليه المادة 5 مكرّر من المرسوم الاشتراعي رقم 144/1959 وتعديلاته (قانون ضريبة الدخل)، تستفيد تلك الشركات والمؤسسات الصناعية من الإعفاء أو التّخفيض الأعلى.
المادة الثانية: تحدّد، عند الاقتضاء، دقائق تطبيق هذا القانون بقرار يصدر عن وزير المالية ويعمل بهذا القانون فور نشره في الجريدة الرسمية.
الدراسة التي أجراها الصناعيون مقدمو إقتراح القانون أظهرت أن اعفاء المصانع اللبنانية القائمة، وهي بأكثريتها مصانع غذائية، مؤقتاً من ضريبة الدخل سيحرم الخزينة حكما من واردات ضريبية مهمّة، إلا أنه بالاستناد الى دراسة الجدوى من الاقتراح يتبيّن انه يرتدّ ايجاباً على الاقتصاد وعلى الخزينة في المستقبل. ذلك أن دراسة الجدوى لهذا الاقتراح بيّنت أنّ الإعفاء الضريبي الموقت سواء من ضريبة الدخل أو من الضريبة على القيمة المضافة للمصانع اللبنانية، يساهم في تحفيز المصانع على الإنتاج والتصدير. ويساهم تالياً، ولو في جزء محدّد، في تخفيض نسبة العجز في ميزان المدفوعات عبر تخفيض نسبة الاستيراد وزيادة نسبة التصدير».
التخبط الإداري في البلد وغياب الرؤية حول مستقبل الإقتصاد انعكس بشكل واضح من خلال الصعوبات التي ترافقت مع إعداد إقتراح القانون. حيث تبين أن الإدارة اللبنانية (لا سيما وزارة الصناعة، وزارة المالية، إدارة الجمارك، غرف التجارة والصناعة وايدال) تفتقر إلى وجود البيانات والمعلومات الضرورية والكافية عن الشركات الصناعية، من حيث أرباحها وأرقام اعمالها ومداخيلها»، تقول التيني. “وعليه فان إقرار القانون يشكل فرصة من أجل البدء في تجميع البيانات للمستقبل، أي تكوين قاعدة بيانات مستقبلية، حول رقم أعمال الشركات الصناعية في لبنان وارباحها، وبشكل عام حول ماليتها. وبالتالي، سيؤدي هذا القانون الى ضبط التهرّب الضريبي في المستقبل لانّ الشركات ستكون مضطرة الى تقديم تصاريح تعكس الواقع (الحقيقي) للإدارة الضريبية من أجل أن تستفيد من الإعفاءات التي تتضمنها أحكام القانون”.
بدلاً من دعم المصانع القائمة وتشجيعها على الاستمرار، أرادت وزارة المالية ومن خلفها حكومة تصريف الأعمال الحالية تشجيع قيام مصانع جديدة. وقد وافقهما في ذلك مجلس النواب. وهذا ما يبدو جلياً في المادة 26 من موازنة 2022 التي نصت على “منح حوافز للشركات والمؤسسات الصناعية والتجارية التي تنشأ من تاريخ نشر قانون الموازنة في الجريدة الرسمية ولغاية 31/12/2022 في مناطق ترغب الحكومة بتنميتها على ان تُحدّد المناطق بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء. فتمنح هذه المصانع الناشئة حسماً ضريبياً يعادل كامل الضريبة على الأرباح لمدة 7 سنوات، اعتباراً من تاريخ ممارسة نشاطها الفعلي، كما تُخفَّض رسوم تسجيل آلياتها ورسوم السير المتوجبة على هذه الآليات بنسبة 50 في المئة طيلة فترة السبع سنوات، كما تُعفى الأبنية التي يتم تشييدها واستعمالها لممارسة نشاطها من رسم البناء”.
كما اشترطت هذه المادة للاستفادة من هذا الحسم الضريبي على أن “لا تقل قيمة رأس المال المستثمر عن مليون دولار أميركي محولاً من الخارج أو تسديده نقداً، وان تقوم باستخدام عمالة لبنانية لا يقل عددها عن 50 لبنانياً، وبنسبة 60 في المئة من مجموع العاملين لديها. وبغض النظر عن المهلة الزمنية القصيرة التي تنتهي في نهاية العام، فان استقدام مليون دولار نقداً من الخارج للاستثمار في لبنان، قد يبدو شرطاً صعباً في هذه الظروف المحكومة باللايقين السياسي والأمني والإقتصادي.”
يصح سؤال المسؤولين عن حجم الإستثمارات التي جذبتها هذه التحفيزات التي تضمنتها موازنة 2022، وعدد المهتمين من أجانب ولبنانيين مغتربين في إنشاء المصانع في لبنان. وفي حال أتى الجواب سلبياً، والأرجح هو كذلك، فهذا دليل على أن بعض ما يُقر من إصلاحات ورزم تحفيزية، هدفه “ذر الرماد في العيون”، والإيحاء بصناعة الإنجازات. فيما الحقيقة هي في مكان آخر، أبعد ما يكون عن تحويل البلد ولو جزئياً إلى اقتصاد منتج، أو حتى وضع رؤية سليمة بعيدة النظر قائمة على الدراسات والأرقام في ما خص صناعة مستقبل الإقتصاد.