صحيحٌ أن أيّ حركة سياسيّة تشمل لقاءات ثنائيّة أو جماعيّة بين قوى سياسيّة هي أفضل بالمطلق من الجمود القاتل، ولكنها للأسف لا تعني بالضرورة أنّ ثمة مخرجات إيجابيّة منتظرة من هذه الاجتماعات.
التأزّم الشديد الذي بات يحيط بالملف الرئاسي اللبناني يتطلب خطوات أكثر عمقاً من مجرّد عقد لقاءات متبادلة، حتى ولو أن هذه الاجتماعات عُقدت بين أطراف متنافرة أو تقف على طرفي نقيض من بعض القضايا الوطنيّة الكبرى. والأكيد أنّها لن تفضي إلى نتيجة إذا كانت الخلفيّات التي تنطلق منها لا ترمي إلى إحداث خرق سياسي بقدر ما تهدف إلى بعث رسائل سياسيّة في اتجاهات معيّنة من دون أن ترقى إلى مستوى «إعادة التموضع».
لقد بات الاستعصاء الرئاسي بمثابة عقدة مركبة بأبعاد محليّة وخارجيّة. فلا الحراك الداخلي وحده بات كفيلاً بإيجاد الحلول الناجعة له، ولا الحراك الخارجي نضجت ظروفه بالكامل بعد ليشكل قاطرة لتغيير المواقف المتصلبة في الداخل والتي تحول دون الخروج من عنق الزجاجة.
وبين فكيّ الكماشة، يواصل الدولار الأميركي صعوده الصاروخي من دون أن تتوفر أي إجراءات لردعه، وحتى الخطوات «الترقيعيّة» الموسميّة التي كانت تُطبق بين الحين والآخر، لم تعد تجدي نفعاً في ظل غياب أي سياسة إصلاحيّة جديّة توفر المخارج المطلوبة للخروج من الأزمة المستفحلة على مختلف المستويات.
لذلك، مطلوب اليوم ما هو أبعد وأعمق من مجرّد لقاءات سياسيّة مبعثرة هنا وهناك. المطلوب حقاً هو الإقلاع عن المقاربات القديمة التي اعتُمدت في الحقبة الماضية ليس فقط في مقاربة الاستحقاق الرئاسي، إنّما في كل القضايا الوطنيّة الأخرى، وهي المقاربات ذاتها التي أدّت إلى ضرب العمل المؤسساتي وصولاً إلى الشغور الرئاسي
إن أي «مبادرات» رئاسيّة محليّة تنطلق من الاعتبارات المصلحيّة والفئويّة لمقدميها لا تعدو كونها مضيعة للوقت حتى ولو ارتدت الطابع الإيجابي من خلال محاولة إيجاد الحلول والمخارج للمأزق الرئاسي لأنها، بكل بساطة، لن تتلاءم إلا مع أولويات الفريق السياسي الذي يطرحها كونه لا يراعي طبيعة التركيبة اللبنانيّة في تعدديتها وتنوّعها.
المنصب الأرفع في الجمهوريّة، أي الرئاسة الأولى، هو منصب لجميع اللبنانيين ولا يمكن اختزاله بفئة أو طائفة أو تيار أو حزب. عندما حصل ذلك الاختزال في عهد الرئيس السابق العماد ميشال عون (2016- 2022)، ذهبت البلاد إلى الانهيار التام. قد يقول البعض إنّ مسببات الانهيار كانت سابقة لهذا العهد. ربما، يكون ذلك صحيحاً بشكل جزئي، ولكن الصحيح أيضاً أنّ تلافي الانهيار كان ممكناً منذ مطلع العهد لو أنّ سياساته كانت أكثر عقلانيّة وأقل مجازفة بالتوازنات اللبنانيّة التقليديّة التي تعرّضت لاهتزازات كبرى نتيجة خيارات ومغامرات سياسيّة خارج سياقها الزمني والسياسي.
التاريخ سوف يقول كلمته في ما يخصّ هذا العهد ودوره في تدمير البنية اللبنانيّة بشكل كبير، والشواهد كثيرة على ذلك ولا تزال طازجة في أذهان اللبنانيين، لا بل إنّهم ما زالوا يعانون من تداعياتها السلبيّة على مختلف المستويات. والتاريخ حتماً لن يرحم.
كان حريّاً بالرئيس عون أن يسعى في الأشهر الأخيرة من ولايته لتهيئة الأجواء لانتخاب خلف له، وهذا ما يفترض أن يقوم به أي رئيس عاقل ومسؤول، إلا أنّ انحيازه التام لتياره أفقده إمكانيّة لعب هذا الدور. وإذا كان الشيء بالشيء يُذكر، العماد عون نفسه عطّل إنتخابات رئاسة الجمهوريّة سنة 1989 وشنّ حربيْن مدمرتين لأنّ المناخات لم تكن تؤشر إلى انتخابه! حقيقة تاريخيّة للتذكير فقط!
المهم الآن عدم الركون إلى الخارج لإسقاط تسوية ما على اللبنانيين، واستنهاض المبادرات المحليّة الجديّة الكفيلة بإخراج لبنان من المأزق الكبير!