EconomieNouvelles Locales

لم يعد ينفع الندم!

صلاح تقي الدين

 

صلاح تقي الدين

دخلت البلاد مرحلة الانفجار الكبير، وإذا كانت كل الدعوات السابقة إلى الحوار أجهضتها بعض القوى لأسباب لا يمكن وصفها سوى بأنها تنطوي على أبعاد طائفية ومذهبية، فإن الآتي من الأيام سيشهد تطورات لا تشي لغاية الآن بأنها ستكون “دموية” لحسن الحظ، لكنها مع ذلك تنطوي على مخاطر كبيرة يخشى أن تستغلها بعض القوى الخارجية للاجهاز على ما بقي من دولة ومؤسسات عبر إشعال فتيل حرب داخلية غلافها اجتماعي اقتصادي لكن واقعها طائفي ومذهبي مقيت.

من عايش فترة الحرب الأهلية السيئة الذكر في منتصف سبعينيات القرن الماضي، لا بد من أن ذاكرته اليوم تستعيد المواقف العالية النبرة ذات البعد الطائفي التي سادت آنذاك وهي شبيهة إلى حد كبير بمواقف اليوم والتي تصدر عشوائياً وتزيد الطين بلة، خصوصاً في ما يتعلق بموقع رئاسة الجمهورية الشاغر تحديداً بسبب اختلاف الموارنة وعدم اتفاقهم على شخصية الرئيس العتيد، والاتهامات التي تصدر في وجه “الفريق الآخر” الذي يريد إفراغ المواقع المارونية في الدولة لصالح “المسلمين”.

ألم يتعلم هؤلاء أن هذه اللغة الخطابية هي التي تحولت إلى تراشق بالنيران نتجت عنها ويلات استمرت خمسة عشر عاماً ولم تهدأ إلا مع تدخل القوى الدولية والاقليمية وفي مقدمها المملكة العربية السعودينة لاقرار ما سمي “وثيقة الوفاق الوطني” في مدينة الطائف، والتي أقرها النواب فيما بعد لتصبح دستوراً للجمهورية اللبنانية، وأن استعادتها اليوم في ظل غياب أي اهتمام دولي أو إقليمي وتحديداً خليجي بلبنان ستنهي معه الكيان وفكرة لبنان؟

لا يمر يوم إلا وتتصدر عناوين ما تبقى من صحف يومية وشاشات التلفزة ووسائل التواصل الاجتماعي هذه الخطابات والتي لا يتوانى أصحابها من “الجهتين” عن رمي الاتهامات في وجه بعضهم البعض، متناسين أن فكرة الحوار والتوافق الداخلي كفيلة بمنع المزيد من انزلاق لبنان إلى قعر جهنم، وأن الاتكال على “الوحي الذي سيهبط” من الخارج لن يأتي على الأقل في المدى المنظور، وفي هذه الأثناء ماذا يفعل اللبناني؟ سيراكم في داخله غضباً لا بد من أن ينفجر في أسبوع أو يوم أو حتى ساعة ما وعندها لن ينفع الندم.

إن المسؤولية الملقاة على عاتق القوى السياسية تدفع إلى القول بأن عليهم أن يكونوا رجال دولة بكل ما في الكلمة من معنى وأن يستجيبوا لدعوات الحوار التي يمكن القول بكل بساطة إن الساعين بكل جد وإخلاص إليه هما رئيس مجلس النواب نبية بري ورئيس الحزب “التقدمي الاشتراكي” وليد جنبلاط، لا أن “يتلطوا” خلف أسباب واهية وحجج غير مقنعة، فريق بحجة “تعالوا نتوافق على مرشحنا للرئاسة دون سواه”، وفريق مقابل يرفض مجرد القبول بهذا النوع من الحوار.

وعلى الرغم من أن الخلاف هو بالتأكيد “ماروني” بامتياز، إذ أن التعددية التي ميّزت القوى السياسية المارونية عبر تاريخ لبنان، كانت وبالاً عليها وعلى لبنان، فالخلاف بين “الكتائب” و”الوطنيين الأحرار” أدى إلى وقوع مجزرة الصفرا بحجة “توحيد” البندقية المسيحية، في حين أن السبب الرئيس كان لحصر القرار الماروني بيد شخص واحد تمهيداً للانتخابات الرئاسية المقبلة. وفي نهاية عهد الرئيس أمين الجميل، تمظهر هذا الخلاف الماروني مجدداً بين “القوات اللبنانية” بقيادة سمير جعجع وقائد الجيش اللبناني آنذاك ميشال عون وعلى من يقع الاختيار بينهما لتبوؤ الرئاسة بعد انتهاء عهد الجميل، ما دفع الولايات المتحدة عبر موفدها آنذاك ريتشارد مورفي إلى إطلاق الشعار الشهير “مخايل الضاهر أو الفوضى”، وهذا ما كان، لم ينتخب الضاهر، واشتعلت حرب “الأخوة الأعداء” في ما عرف بـ “حرب الالغاء” والتي كانت من نتائجها البديهية هجرة مسيحية إلى الخارج، ثم مقاطعة للانتخابات النيابية بعد إقرار “وثيقة الوفاق الوطني” في الطائف.

وعلى الرغم من الخلاف الحاد آنذاك بين مؤيد لدعوة مقاطعة الانتخابات النيابية وبين رافض لها، كان للوجود السوري في لبنان وهيمنته على كامل المفاصل السياسية للدولة، الدور المهم في إعادة نوع من الانتظام إلى عمل الدولة، خصوصاً أن الرئيس الشهيد رفيق الحريري صاحب الشعار الشهير “أوقفنا العد” سمح للمسيحيين بتقاسم مفاصل السلطة على قاعدة “المناصفة”.

ولأن ضابط الايقاع السوري كان متحكماً بالقرار، جرى انتخاب الرئيس الراحل الياس الهراوي بسهولة ويسر ومن دون “اعتراض” مسيحي شكلاً على الأقل، كما جرى التمديد له ومن ثم انتخاب أميل لحود والتمديد له على القاعدة نفسها، غير أن اغتيال الحريري أعاد خربطة الأمور، فخرج السوري من لبنان، وعاد المنفي عون من باريس وخرج السجين جعجع إلى الحرية، وعادت الخلافات المارونية إلى ما كانت عليه، خصوصاً مع اقتراب نهاية عهد لحود وطموح عون “المستشرس” للوصول إلى بعبدا وقطع الطريق على أي أحد سواه.

لكن غزوة السابع من أيار لبيروت والجبل واضطرار القوى السياسية إلى البحث عن مخرج، جعل الدوحة تستضيف المؤتمر الشهير الذي نتج عنه فرض قائد الجيش العماد ميشال سليمان رئيساً و”خفت” صوت عون الذي كان يرفض جملة وتفصيلاً هذه النتيجة، لكنه رضخ للقرار الاقليمي والدولي مع تمسّكه بـ “الوعد الصادق” للأمين العام لـ “حزب الله” السيد حسن نصرالله بأن يكون الرئيس المقبل بعد ست سنوات.

وعطّل حزب السيد نصر الله الحياة البرلمانية والانتخابات الرئاسية سنتين وخمسة أشهر لتنفيذ وعده بإيصال عون إلى الرئاسة، وكان هذا التعطيل فعلياً بداية للانهيار الذي نعاني منه اليوم، والحق يقال إنه لولا الغلطة الشنيعة التي ارتكبها جعجع بتوقيع اتفاق معراب المشؤوم، ومن ثم الصفقة التي عقدها الرئيس سعد الحريري مع جبران باسيل، لكان البلد لا يزال لغاية اليوم من دون رئيس، لكن ماذا كان الدرس المستقى من تلك التجربة؟ عندما اتفق الموارنة، انتخب رئيس.

الا أن الأمر يتجدد اليوم على قاعدة قول كارل ماركس الشهير “التاريخ يعيد نفسه مرتين مرة على شكل مأساة ومرة على شكل مهزلة”. البلاد من دون رئيس بسبب الخلاف الماروني الداخلي: باسيل يرفض النائب ميشال معوض، ورئيس تيار “المردة” سليمان فرنجية وقائد الجيش العماد جوزيف عون، وجعجع يرفض باسيل وفرنجية، وهلم جراً، خلافات إلى ما لا نهاية، ولن يستقيم الأمر إلا بعد اتفاق الموارنة بين بعضهم البعض على اسم يستطيعون فرضه على باقي اللبنانيين كرئيس للجمهورية، خصوصاً وأن تركيبة المجلس النيابي الحالي لا توفر أكثرية النصف زائد واحد لأي فريق سياسي، ومع وجود كتلة نواب تغييريين، يجب تغييرهم أصلاً، فالحل يكون بالحوار الماروني والانتقال إلى الحوار الوطني لكي يصار إلى ملء رأس السلطة التنفيذية بالشخص المناسب.

الوضع المتأزم اجتماعياً واقتصاديا ومالياً وتربوياً وإدارياً وقضائياً لا يمكن أن يستمر على ما هو عليه، وإن لم تستقم الأمور بدءاً برأس الهرم، فإن الانهيار الكبير واقع لا محالة وعندها لن ينفع الندم، وسلام على من اتبع الهدى.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى