الرابع من آب ٢٠٠١، لم يكن يوماً عادياً في تاريخ الجبل، وتحديداً على صعيد العلاقة ما بين الدروز والموارنة، المكونين المؤسسين لفكرة لبنان. كانت محطة مفصلية طوى فيها البطريرك الراحل مار نصرالله بطرس صفير مع رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط صفحة أليمة، كما كل صفحات الحرب الأهلية التي عصفت بلبنان على مدى ١٥ عاماً.
وُلدت في ذلك اليوم مصالحة الجبل، وفي خلفية المشهد سنوات طويلة من الصدامات والحروب والقلق المتبادل والهواجس. فالخوف على الوجود والهوية، كما تصوير الآخر كخصم، كان سمة العلاقة المتوترة دائماً بين دروز الجبل وموارنته، منذ صراع بشير الشهابي وبشير جنبلاط وما تبعه من أحداث في العامين ١٨٤٠ و١٨٦٠، مروراً بأحداث ١٩٥٨ ووصولاً الى حرب الجبل.
وعن هذا التاريخ القلق، وبصراحة لا نعهدها في كتب التاريخ المنمقة والمنقحة عادة وفق مصلحة فريق أو حزب أو طائفة، جاء الاصدار الجديد عن “أمم للتوثيق والأبحاث”، لأستاذ مادة التاريخ في الجامعة الأميركية مكرم رباح، والذي حمل عنوان “النزاع على جبل لبنان، الذاكرة الجماعية وحرب الجبل”، مخاطباً ذاكرة هذين المكونين بكل تجلياتها وعوراتها وبحسناتها وسلبياتها، والأهم من دون أي عمليات تجميل، مستنداً الى وثائق وصور تُنشر للمرة الأولى، إضافة الى سرد تفاصيل أحداث ووقائع تاريخية لم تأخذ حيّزاً من قبل ولم تقارَب بطريقة علمية وموضوعية.
فتح هذه السجلات واستحضار المراحل التاريخية قد يظهر في غير زمانه، خصوصاً وأن هذه الذاكرة تبدو وكأنها محفزة دائماً للنزاع لا الالتقاء، الا أن الغوص أكثر في تفاصيل هذا المولود الفكري الجديد، يكشف أن سبب القتال الحقيقي كان دائماً يعود الى انعدام المصارحة والمكاشفة بين الجهتين، فكل فريق يخشى الآخر ويبني على هذه الخشية وينمّيها حتى تصبح وصفة الصدام جاهزة، ويكون حينها قد سبق السيف العزل.
فالذاكرة الجماعية لهذين المكونين تعود دائماً الى الواجهة لتكون المقياس الوحيد لمقاربة أي كباش سياسي ما بين الأقوياء لدى الفريقين، وكأن الأحداث تتكرر بقدرية رهيبة عند كل مفترق. فإعدام بشير جنبلاط سيعود ليتجلّى باغتيال كمال جنبلاط وقبله والده فؤاد، وأحداث 1860 ستقفز الى الذاكرة فوراً منذ تلك اللحظة حتى وقوع المواجهة الدموية، وفشل التقاء وليد جنبلاط وبشير الجميل، وانقلاب كل المعادلة ما بعد اغتيال الأخير. وأما المفارقة الغريبة فكانت دائماً بتحوّل صراع القوى الكبرى الى فتنة درزية مارونية في الجبل، وهنا بيت القصيد الذي يستدعي قول الأمور كما هي علّ هذين المكونين يأخذان درساً مرة ولكل المرات في المستقبل.
هذا الدرس الذي يتجاهله في كل مرحلة أحدهم، وتكفي العودة الى خطاب رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل في قداس دير القمر في العام 2019، والذي حمّله الكثير من مشهدية العام 1860، لتؤكد أهمية تنقية الذاكرة الجماعية لكلي البيئتين كي لا تكون جمراً تحت الرماد عند كل مفصل.
يغوص الكاتب في الذاكرة الجماعية، وبحبكة جديدة، يستند الى التاريخ الشفوي بكل تفاصيله وبلسان أبناء المرحلة، الذين تعرفهم الأرض والجماعة ولهم بصمتهم في محطات حرب الجبل الأساسية. مستشهداً بالأحداث التاريخية والتي عاشت في الوعي الجماعي رغم مرور عقود، لا بل بقيت تحفزه عند كل مطبّ ومفصل.
وتأتي هذه الدراسة في فترة سياسية مأزومة يكثر فيها الحديث عن الفدرالية كحل لأزمات لبنان ووصول النظام السياسي اللبناني الى طريق مسدود يستوجب البحث عن بديل له، ما يستدعي العودة أكثر الى التاريخ من أجل فهمٍ أوضح للعقلية والمخاوف التي تتحكم بمكونات هذا البلد، وهذا الكتاب واحد من هذه المراجع التي تستحق القراءة من أجل مقاربة جديدة تبني على الماضي من أجل مستقبل أفضل.
فقراءة هذا الكتاب، بغض النظر عن النقد الأكاديمي أو المنهجي، توصل الى خلاصة مهمة جداً وهي ضرورة أن “تنذكر” الحرب ومسبباتها، ولكن “كرمال ما تنعاد”، ليس فقط بين الدروز والموارنة انما بين أي مكونات أخرى في البلد، و”على أمل كتابة تاريخ ومستقبل أفضل لنا جميعاً”، كما يقول الكاتب.