Nouvelles Locales

فلسطينيو لبنان بين التظاهرات و”هنية” والصواريخ: القدس أبداً

الهتاف الذي ينطلق في ساحة الشعب بمخيم شاتيلا، يتردد نفسه في ساحة الشهداء في مخيم برج البراجنة “ع القدس رايحين/ شهداء بالملايين”، كما في المخيمات الفلسطينية الأخرى في لبنان. ترداده ليس عبثاً، فهو فضلاً عن أنه الشعار الأشهر للزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، فهو يمسّ عمق وجدان الفلسطينيين، وتاريخهم الوطني. وليس تفصيلاً الانفعال الظاهر والمعبّر للشباب والشابات، وهم يلوحون بالكوفية، في وقت تنطلق الصواريخ من جنوب لبنان إلى شمال فلسطين، ويزور رئيس المكتب السياسي لحماس، اسماعيل هنية، لبنان، في توقيت يحمل الكثير من الدلالات.

على جدران منازلهم
يعرف هؤلاء المتظاهرون الذين خرجوا ليلاً يملأون الحواري والزواريب، بأعمارهم وأجناسهم كافة، أن معظم ثوراتهم وانتفاضاتهم مرتبطة بذلك المكان، من ثورة 1920، 1929، 1990، 1996، 2000، 2015، 2017. سبع انتفاضات وثورات كافية للقول إن الذاكرة الفلسطينية المعاصرة تكاد تكون ذاكرة القدس والأقصى.

القدس التي رسموها على جدران منازلهم، وعلقوها صوراً في منازلهم، واستقبلوا بقبة مسجدها المذهّبة العائدين من الحج، وحتى زينوا بها سجادة صلاتهم، هي التي تدفعهم كل ليلة للتظاهر، بلا حاجة إلى دعوة فصائلية، فأكثر من نصف التظاهرات التي شاركوا فيها خلال الربع قرن الأخير كانت من أجل القدس، ولتزايد التهديدات التي تستهدفها. كانت نهاية أوسلو في كامب ديفيد 2 من أجل القدس، ورفضاً لمحاولة فرض تقسيم المسجد الأقصى، فلا تسامح فلسطيني بالتنازل عن جزء متجذر فيهم، حدّ التباهي وكأنهم ورثوه، فقد قيل إن عبد الملك بن مروان حين بنى مسجد قبة الصخرة، الذي هو جزء من الأقصى، أراد أن يباهي به أهل الحجاز. وقد طاف الفلسطينيون لسنوات حول المسجد قبل أن تُمنع تلك العادة.

فطن المفتي أمين الحسيني لرمزية المسجد الأقصى، فحرره من أي بعد مذهبي حين دعا الإمام محمد كاشف الغطاء في المؤتمر الإسلامي الأول عام 1931 ليؤم أشهر علماء الإسلام في الأقصى، ورسّخ بعده الوطني، حين كان أحد أبرز مساعديه إميل الغوري مدافعاً بالمحافل الدولية عن حق المسلمين فيه. ثم حوصر المفتي فيه لثلاثة أشهر، قبل أن يغادر متخفياً إلى زوق مكايل في لبنان. قرأ الفلسطينيون جلّ هذا التاريخ، فلم يعودوا يتخيلون هويتهم الوطنية من دون هذه الرموز.

الذات الفلسطينية
ربما بعض من تظاهر من الفلسطينيين في لبنان، حرّكته، إضافة إلى ذلك، فكرة خفية بالخروج من الذات، المسحوقة حقوقياً، المحاصرة ضمن بناء عشوائي، وجوده على هامش القضية بعد نشوء السلطة الوطنية وتهميش منظمة التحرير. أراد الخروج من تلك الذات، باتحاد مع ذات أخرى، بعيدة، ورغم أنها تعاني، لكنها ما زالت في صُلب المشروع الوطني، ومحرّكته أيضاً.

وانطلقت الصواريخ من جنوب لبنان لتقذف هذه الذات الفلسطينية في المخيمات مرة واحدة إلى متن المشروع الوطني الفلسطيني، كفاعل غير ناقص الصلاحية، ولا منتقص من وجوده. وهي تطرب لاتهام “حماس” بإطلاق تلك الصواريخ، وإن لم يوافقها البعض سياسياً، لكن تبقى الذات الفلسطينية عموماً غير مكترثة بتبعات ذلك الاتهام على صعد عدة، منها العلاقة مع شرائح لبنانية مختلفة، وكذلك مدى تأثير ذلك على حظوظ تحييد المخيمات عن حروب محتملة مقبلة، أو حتى استهداف لمواقع داخلها. لكن يعتبر الفلسطينيون في لبنان بشكل عام أنهم يستعيدون دورهم المركزي فلسطينياً على الأقل، إضافة إلى محاولة صدّ العدوان عن أحد أبرز رموزهم الحضارية إزاء شلل وعدم اكتراث عربي شبه شامل لأسباب معروفة.

هنية و”وحدة الساحات”
في هذه الأجواء تأتي الزيارة الثالثة لرئيس المكتب السياسي لحركة “حماس” إسماعيل هنية للبنان، وزهد هذه الزيارة باللقاءات الرسمية والعامّة تفتح الباب واسعاً على تأويلات عن أسبابها، في وقت تتزايد الاتهامات الإسرائيلية لحركة “حماس” عن بناء بنية تحتية عسكرية في جنوب لبنان، ونشْر الإعلام الإسرائيلي صوراً لمواقع في المخيمات الفلسطينية وخارجها، قال إن الحركة تستخدمها في التدريب والتخطيط لمهاجمة قواته انطلاقاً من جنوب لبنان، وإن كان هناك من يقول إن تلك الاتهامات محاولة مسبقة لمنع أي تطور إضافي في العلاقة بين حزب الله وحماس.

ومع ذلك، فإن زيارة هنية تأتي بعد المصالحة بين “حماس” وسوريا، والتي لعب فيها حزب الله الدور الرئيسي، وما أعقب تلك المصالحة من حديث متزايد عن وحدة الجبهات، أو وحدة الساحات، وتصاعد التنسيق بين أطراف محور المقاومة. كما تأتي الزيارة في وقت يشارك فيه اليمين الديني لأول مرة بهذه القوة في حكومة إسرائيلية، بما يحمل مخاطر جدية في نواحٍ مختلفة. فهذا اليمين الذين كان مهمشاً إلى حد بعيد داخل القيادة الصهيونية منذ الهجرات الأولى، صار “يوم الغفران” الذي يحييه خطراً على المسجد الأقصى بعدما كان مناسبة لفريق صهيوني يحرص للذهاب إلى “حائط المبكى” في ذلك اليوم لالتهام شطائر لحم الخنزير.

المهم أن هذه التحوّلات ليست هامشية، وتشكّل خطراً جدياً حتى على الوجود الفلسطيني نفسه داخل فلسطين. يستشعر الفلسطينيون ذلك، في وقت لم تعد غزّة تستطيع وحدها تحمّل عبء المواجهة، بعد حرب “سيف القدس” عام 2001، فاندفعت مجدداً مقولة “المساس بالقدس مساس بالأمن الإقليمي”، وها هي تخضع للاختبار مع زيارة هنية للبنان، بقدر ما تخضع للمراقبة والاختبار مقولة وحدة الجبهات.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى