Nouvelles Locales

انتشار التدوير والفرز المنزلي: الإفقار قلّص نفايات اللبنانيين..

تُفرغ السيدة السبعينيّة سليمة شومان، المستوعبات الحديدية الصغيرة الموضوعة في حديقة منزلها الكائن في بلدة زفتا الجنوبيّة، بشكل أسبوعي، بعد أن حدّدت مواد معينة لوضعها في كل مستوعب. فتضع في الأول العبوات الزجاجية، أما الثاني فيضم جميع أنواع البلاستيك، والثالث للكرتون. وتقول “أعجبت بطريقة الفرز المنزلي المعتمدة في الولايات المتحدة الأميركية، عندما قمت بزيارة ابنتي، وقررت تطبيقها في لبنان، وتعلّمت كيفية تقليص نسبة النفايات التي تخرج من منزلي”.

وعي بيئي
خلال السنوات الخمس الأخيرة، وفي مختلف الأراضي اللبنانيّة، ارتفع عدد العائلات التي تطبّق عمليات فرز النفايات المنزلي، وخصوصاً في مناطق الجنوب اللبناني، حيث ظهرت مبادرات فردية وجمعيات بيئية متنوعة، تهدف إلى توعية الأهالي على أهمية الفرز، لتقوم بعدها بشراء أكياس النفايات المفرزة منهم مقابل مبالغ مالية محددة.

والسيدة شومان، هي واحدة من النساء اللواتي أعجبن بالفرز المنزلي وأهميته في الحفاظ على البيئة، فقررت تشجيع جاراتها أيضاً. فتروي لـ”المدن” كيف طلبت من جميع أولادها، البالغ عددهم 12، أن يفرزوا نفاياتهم ويتبرعوا بها، وكيف علّمت جاراتها أيضاً هذه الطريقة، قائلةً: “خلال فترة قصيرة، وضعت جاراتي المستوعبات الحديدية أمام بيوتهن لوضع المواد المفرزة فيها، واقتنع أولادي بضرورة الفرز المنزلي، وقاموا بالتبرع بأكياس النفايات لبعض المهتمين في تجميع المواد المفرزة”.

مبادرات فردية
وفي المرحلة الثانية، تُقدّم أكياس النفايات المفرزة للجمعيات البيئية أو للأفراد أصحاب المبادرات، الذين انتشروا في مختلف الأراضي اللبنانيّة، حيث انطلقت هذه المبادرات نتيجة اهتمامهم بالحفاظ على البيئة، أو لتحقيق بعض الأرباح المادية، أو لأسباب شخصية تماماً كما حصل مع السيد سليم يونس.

انطلقت مبادرة السيد سليم يونس، ابن بلدة البابلية الجنوبية، الهادفة إلى تجميع المواد المفرزة منزلياً منذ حوالى 9 سنوات، وذلك بعد أن أخبره الطبيب بأن طفله “دانيال” يعاني من تشوه خلقي في القلب، نتيجة تعرضه للتلوث والروائح المنبعثة، فقرر حينها الاعتناء بالبيئة والحفاظ عليها بالطرق المتاحة أمامه.

تمكّن يونس خلال هذه السنوات من التعامل مع أكثر من 12 بلدة جنوبية ومن ضمنها: “الصرفند، البابلية، البيسارية، الغسانية، زفتا، كوثرية السياد، قاقعية الصنوبر، زبدين، السكسكية..”. فيقول: “نسبة الوعي البيئي لدى العائلات ارتفع كثيراً، ففي بلدة الصرفند التي تضم حوالى 1500 وحدة سكنية، أتعاون مع أكثر من مئة عائلة بشكل دائم، فيقومون بفرز نفاياتهم ويتبرعون بها، لأقوم بعدها ببيعها للمصانع”.

تصنّف المبادرات الفردية بين مبادرات مجانية وأخرى مدفوعة. وحسب يونس، فإنه لا يحصل على جميع النفايات المفرزة بطرق مجانية، فيقول “في بعض الأحيان أقدم مبالغ مالية رمزية لبعض العائلات، لقاء حصولي على أكياس النفايات المفرزة، وذلك لتحفيزهم على تقديم المزيد بشكل دائم”.

وأزمة النفايات في الجنوب اللبناني لا تختلف عن الأزمة المنتشرة في المدن. ولسنوات طويلة عانت المناطق اللبنانية من دون استثناء من تراكم النفايات وانتشارها على الأرصفة وفي الشوارع وأمام البيوت، لافتقاد الدولة اللبنانية لخطة فعلية أو إدارة صحيحة لمعالجة النفايات فور خروجها من المنازل. وقد تكون المبادرات الخجولة قد ساعدت وساهمت في تجميل الشوارع وتأجيل الأزمة. ولكن هل فعلاً قامت بمعالجتها بشكل نهائي؟

حلول مؤقتة
يشرح المهندس سليم خليفة، رئيس جمعية شعاع البيئة، وعضو في الحركة البيئية خلال حديثه لـ”المدن” أن هذه المبادرات وبالرغم من أهميتها الكبرى في نشر الثقافة البيئية داخل بيوت المواطنين، ولكنها غير كافية ولم تتمكن من معالجة الأزمة. وهي تفتقد إلى مقومات الفرز الصحيح والمطلوب، ويمكن تصنيف المبادرات المنتشرة والمؤلفة من شبان وشابات بأنها مجموعة من هواة تجميع المواد الصلبة لبيعها والاستفادة منها مادياً.

وسليم هو صاحب جمعية في بلدة الصرفند لإعادة فرز أكياس النفايات المفرزة قبل تسليمها للمصانع المسؤولة عن إعادة تدويرها. وهو على تواصل شبه يومي مع أصحاب المتاجر والصيدليات وبعض المحلات التجارية التي تعاونه على تجميع المواد الصلبة المؤلفة من الزجاج، البلاستيك، الألمنيوم، والورق، ليقوم بفرزها مرة أخرى داخل المركز وبطريقة منظمة.

ويتابع سليم أن هذه المبادرات تقوم على الاستفادة من المواد الصلبة. ولكن ما مصير بقايا المواد؟ أي المواد العضوية كبقايا الأكل والمواد المصنفة أنها غير قابلة للتدوير. وهنا تكمن المشكلة الكبرى، فالمواد العضوية من الممكن الإستفادة منها عن طريق تحويلها إلى سماد مفيد للتربة، وبيعه للفلاحين حيث يصل سعر الكيس الواحد إلى 10 دولارات. ومن الضروري إيجاد حلول مستدامة وتطبيقها لمعالجة صحيحة للنفايات.

انخفاض نسبة النفايات
في سياق متصل، وبعدما مضى على الأزمة الاقتصادية في لبنان أكثر من 4 سنوات، تدهورت خلالها الليرة اللبنانية أمام الدولار الأميركي، وانعكست هذه الحال بشكل خاص الذين عجزوا عن تأمين حاجياتهم الأساسية وتغيرت أحوالهم عما كانت عليه، فما قبل عام 2019 ليس كما بعده.. تخلّت مئات العائلات اللبنانيّة عن حياة الرفاهية وحُصر إنفاقهم على السلع الضرورية، وهو الأمر التي لاحظته الجمعيات البيئية خلال فرزها لأكياس النفايات!

وهنا يشرح سليم لـ”المدن” أن نسبة النفايات تراجعت بعد الأزمة الاقتصادية بنسبة تراوحت بين 22% و25%، وتوضح ذلك بعد أن تعاونا مع الجمعيات البيئية وبعض البلديات وبحضور مجموعة من الخبراء في مجال الإحصاء البيئي، وقمنا بإجراء إحصاءات خاصة بالنفايات، ما بين عام 2019 و2023، عن طريق أخذ العينات من بعض المناطق ومراقبتها على مدى أيام، ليتبين بعدها أن نسبة النفايات بدأت تتراجع منذ عام 2019 حتى وصلت إلى نسبة 25% عام 2023، فلوحظ حينها أن المواطنين غيّروا أساليب حياتهم السابقة بأسلوب اقتصادي جديد، وبات استهلاكهم الشهري يقتصر على الحاجات الضرورية فقط.

وتأكيداً على كلام سليم، أجرت “المدن” مقابلة مع مجموعة من النساء داخل إحدى المتاجر الغذائية في بيروت لمراقبة كيفية اختيارهن لحاجاتهن الشهرية.

تجر السيدة الهام ش. عربتها التي وضعت فيها عبوة بلاستيكية صغيرة من الزيت النباتي، وكيس من السكر، ونصف كيلو من الدجاج، فتقول لـ”المدن”: “عام 2018 كنت أزور المتاجر الغذائية بشكل شهري، وأجمع جميع أغراضي في العربة من دون أن تتعدى فاتورتي مبلغ الـ600 ألف ليرة لبنانية، وكانت الأغراض تكفيني لشهر كامل. أما اليوم فأحاول أن أشتري أغراضي بطريقة متقطعة، حسب حاجتي اليومية للطبخ، أما أسعار الزيت والسكر والدجاج فصارت تلامس قيمة الـ700 ألف ليرة”.

بدورها تشرح السيدة ريم (والدة لطفلين) لـ”المدن” كيف تغير استهلاكها نتيجة الأزمة الاقتصادية، فتقول “كنت أشتري الكثير من أكياس السكاكر والحلويات لأطفالي. أما اليوم تقتصر زيارتي إلى المتاجر الغذئية لشراء الألبان والأجبان والسلع الضرورية فقط، حتى أنني أجبرت على تبديل نوعية بعض مساحيق التنظيف بسبب ارتفاع سعرها الجنوني، ومن الطبيعي أن تنعكس هذه الأمور على نفايات منزلي، فلم أعد أرمي الثياب القديمة كالسابق بل أقوم بتصليحها عند الخياط. وفيما يتعلق بالسلع الغذائية، صرت أشتري حسب حاجتي فقط، وتخليت عن السلع الباهظة الثمن”.

قلّص الانهيار الاقتصادي نسبة النفايات في لبنان، وساهم في الحفاظ على البيئة بشكل أكبر، ولكن الأهم من كل ذلك أن الوعي البيئي اقتحم بيوت المواطنين وتمكّنوا من تطبيق أسلوب حياة جديد يعتمد على الفرز المنزلي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى