
شغلت مسألة تمثيل الأقلّيات حيّزاً واسعاً في المناقشات والانتقادات التي طاولت قوائم مرشّحي الانتخابات النيابية للأحزاب السياسية التركية. وفي حين تضمّنت لوائح كل من الحزب الحاكم والمعارضة الأم في البلاد مرشّحين أرمنيين، نال حزب الشعوب الديموقراطي الحصة الأوفر من الانتقادات لغياب مرشّح أرمني عن لوائحه للمرة الأولى منذ عقد من الزمن.
ستة مرشّحين من الأقليات العرقية والدينية يخوضون المنافسة في 14 أيار (مايو) في تركيا، وسط احتمال نجاح اثنين منهم فقط، في أدنى مستوى من تمثيل الأقليات في الانتخابات النيابية التركية خلال العقدين الأخيرين.
المرشح الأرمني لحزب العدالة والتنمية
رشّح حزب العدالة والتنمية الحاكم الطبيب الجرّاح سيفان سيفاتشي أوغلو من المجتمع الأرمني الإسطنبولي، في المرتبة التاسعة عن دائرة إسطنبول الثانية. ويعرف سيفاشي أوغلو، وهو عضو في المجلس التنفيذي المركزي للحزب بصلاته الجيدة بالمؤسسات الدينية والجمعيات التابعة لبطريركية الأرمن الأرثوذكس في اسطنبول، مع غياب وجود أي تواصل له مع الأرمن خارج تركيا.
في المقابل، يوجّه العديد من الأرمن في إسطنبول انتقادات حادة لسيفاتشي أوغلو متّهمين إياه بالاتساق مع سياسات حزبه في القضايا التي تهمّ المجتمع الأرمني، مشكّكين في قدرته على إيصال صوتهم الى السلطة التي كان جزءاً من جهازها الحزبي، وهو ما يفترض أن يكون من صميم مهامه كممثل للأرمن في البرلمان التركي.
ورداً على طلب “النهار العربي” الحصول على تصريحات حول ترشّحه والانتقادات الموجّهة إليه، قدّم سيفاتشي أوغلو “اعتذاره عن اجراء المقابلات حالياً لضيق الوقت”.
ويعتقد الصحافي الأرمني في إسطنبول، مراد مخجي، في تصريحات إلى “النهار العربي” أن “سيفاتشي يبدو أنّه أنجز بنجاح المهمة التي كلّفه بها حزب العدالة والتنمية والمتمثّلة بتكثيف التواصل مع البطريركية الأرمنية ومؤسساتها وفقاً للمنظور السياسي لحزب العدالة والتنمية، ليصبح المرشّح الأرمني الوحيد الذي يتمتع بفرصة كبيرة للنجاح في الانتخاب”.
وتبدو فرص سيفاتشي أوغلو للفوز في الانتخابات شبه مضمونة، مع الأخذ بالاعتبار نجاح ثلاثة عشر مرشّحاً عن حزب العدالة والتنمية من دائرة إسطنبول الثانية في انتخابات عام 2018، ليكون على الأرجح النائب الأرمني الوحيد في البرلمان التركي في دورته الثامنة والعشرين.
وللمعارضة مرشّحتها الأرمنية
ورشّح “تحالف الأمة” السياسية الأرمنية في صفوف حزب الشعب الجمهوري، مارغريت ديكما، المعروفة من الأوساط الأرمنية والطوائف المسيحية الأخرى في إسطنبول بنشاطها الاجتماعي مع المنظمات الإغاثية والخيرية، وبخاصة تلك المتعلّقة بالعناية بالمسنين، بالإضافة إلى مهامها الأساسية كقيادية في الجناح النسائي للحزب ووظيفتها نائبة لرئيس بلدية “باكيركوي” وعضو مجلسها في إسطنبول.
ووفق مخجي، المزاول للعمل السياسي أيضاً في صفوف حزب المساواة والديمقراطية، أنّه “بالنسبة الى تحالف الأمة فإن إنشاء قائمة انتخابية متعددة المكونات، مهمّة أصعب من تشكيل الحكومة. حتى طريقة إعداد القوائم تُظهر بوضوح مدى قصور هذا النظام الانتخابي الغامض”.
ترشيح حزب الشعب الجمهوري شخصية أرمنية، ليس بالحدث المفاجئ، فقد قدّم الحزب مرشحة أرمنية للدورة البرلمانية ما قبل الماضية، لكنها فشلت في دخول البرلمان في خسارة غير متوقّعة عن دائرة “شبه مضمونة” في انتخابات عام 2015.
وزادت خطوات التطبيع بين أرمينيا وتركيا من جهة، ودعوة رئيس الحزب والمرشّح الرئاسي كمال كيليتشدار أوغلو الشعب التركي الى “المحاللة”، من احتمالات تقديم حزب الشعب الجمهوري مرشّحاً أرمنياً، كون الأرمن إحدى الفئات المعنية بـ “المحاللة”، في ظل وجود مسألة “الإبادة الجماعية الأرمنية”، لكن ترشيح ديكما من المرتبة الثالثة والعشرين في دائرة إسطنبول الثالثة خيّب هذه التوقعات، مع الأخذ بالاعتبار نجاح حزب الشعب الجمهوري في إيصال تسعة نواب فقط من هذه الدائرة الى البرلمان في الانتخابات الماضية.
ويرى مخجي أن “ديكما، التي تم ترشيحها في مرتبة يصعب انتخابها، ستظهر جهوداً قيّمة في خدمة مجتمعات الأقلّيات في تركيا، استمراراً لما دأبت على القيام به، وبخاصة المجتمع الأرمني”، معتبراً ترشّحها “قيمة مضافة للأقلّيات” في تركيا.
الى ذلك اعتبرت ديكما في حديث إلى “النهار العربي” أن “ترشّحها عن حزب الشعب الجمهوري، جاء تتويجاً للمهام التي أدّتها خلال سنوات عملها الطويلة في صفوف الحزب”، مركّزة على أنها “مرشّحة الأتراك جميعاً” مع الالتزام “بقربها من قضايا المجتمع الأرمني والأقليات الأخرى” في تركيا عموماً وإسطنبول بشكل خاص.
المرشحة ديكما
واعتبرت ديكما أنها “قريبة جداً من المجتمع الأرمني في إسطنبول بمؤسساته الدينية والثقافية، بالإضافة إلى التمثيليات الدينية والثقافية للطوائف والأقليات المسيحية الأخرى”، رافضة التحليلات حول صعوبة نجاحها قائلة إن “استطلاعات الرأي المتوافرة بين أيدينا تشير إلى خرق كبير سيحدثه حزب الشعب الجمهوري والتحالف الانتخابي الداعم له في إسطنبول وبخاصة في الدائرة الثالثة، وبالتالي حظوظ وصولي إلى البرلمان ليست ضئيلة كما تقول”.
اليسار الأكثر تمثيلاً للأقلّيات
أثارت مشاركة حزب العمال التركي، وهو أحد مكوّنات تحالف “العمل والحرية”، في الانتخابات بقائمته الخاصة، جدلاً كبيراً في أوساط التحالف الذي يضم معظم الأحزاب اليسارية في تركيا بقيادة حزب الشعوب الديموقراطي الموالي للأكراد، والذي يشارك في الانتخابات بدوره تحت اسم حزب “اليسار الأخضر” لتفادي قرار مفاجئ بإغلاق الحزب قبيل الانتخابات.
ويترشّح الحزب الذي لمع نجمه في الفترة الأخيرة، وبشكل خاص غداة دوره الفعّال في الاستجابة للزلزال، للانتخابات بقوائم ضمّت شخصيات أرمنية ويونانية.
ويعتبر المرشّح ماسيس كوركجوكيل، أحد أبرز الأسماء، ليس بالنسبة الى المجتمع الأرمني في تركيا فحسب، بل بالنسبة الى اليسار التركي والحركة الاشتراكية في تركيا. تم ترشيح كوركجوكيل في المرتبة الثالثة عشرة عن دائرة اسطنبول الثانية، وهو ما يضعف من احتمالات دخوله البرلمان، مع الأخذ بالاعتبار أن حصة اليسار من المرشحين في الدائرة المذكورة لم تتجاوز المراتب الثلاث في الانتخابات الماضية.
وفي حديث إلى “النهار العربي” اعترف كوركجوكيل بـ”صعوبة مهمة الحصول على بطاقة دخول البرلمان من موقعه في المرتبة الثالثة عشرة في الدائرة الثانية، إن لم نقل استحالة تحقيق ذلك”، مؤكداً أن “مشاركته جاءت في الأساس بناء على رغبة الحزب الذي يعمل في صفوفه منذ تسعينات القرن الماضي، وتدرّج في العديد من المناصب فيه”.
ويعرف كوركجوكيل، صاحب دار النشر، ومؤلف العديد من الكتب، بالتصاقه بقضايا المجتمع الأرمني في تركيا بشكل خاص، والأقلّيات عموماً، وقد ألّف كتاب “هل كان بالإمكان كتابة تاريخ آخر؟” الخاص بالإبادة الجماعية، أو كما يعرّفها المناضل السياسي والمعتقل السابق، “مقالات عن المسألة الأرمنية”.
ورفض كوركجوكيل خلال اللقاء وصفه “بممثل الأرمن في الانتخابات النيابية” قائلاً إنه “يمثّل النضال اليساري في تركيا والخط الاشتراكي” رغم تأكيده أنه “الأقرب إلى القضايا التي تهم الأرمن في إسطنبول وتركيا عموماً من كل المرشحين الأرمنيين”.
أما المرشّح الآخر عن حزب العمال التركي فهو اليوناني فوتي بينليسوي، مؤلف العديد من الكتب التي تقارب التاريخ التركي وتقييمه من منظور يساري.
في المقابل رشّح حزب اليسار الأخضر، الذي يقود تحالف “العمل والحرية” المعارض، نائباً سريانياً وآخر أشورياً وثالثا إيزيدياً. أحد هؤلاء المرشحين هو جورج أرسلان، الممثل للمجتمع السرياني، وصاحب حظوظ كبيرة لدخول البرلمان كونه يخوض المنافسة الانتخابية في المرتبة الرابعة في دائرة ماردين، التي شهدت دخول أربعة نواب من حزب الشعوب الديموقراطي البرلمان عبر صناديقها، مع توقعات بارتفاع هذا العدد إلى خمسة في الانتخابات القادمة.
وينافس المرشح الآشوري للحزب أديب أصلان، في المرتبة العاشرة في دائرة إسطنبول الثالثة المنطقة الثالثة، التي بلغ عدد المرشحين عن حزب الشعوب الديموقراطي الفائزين فيها خمسة نواب في الانتخابات الماضية، بينما ينافس المرشّح الإيزيدي، آزاد باريش، الكاتب والصحافي المخضرم، في المرتبة العاشرة ضمن دائرة ديار بكر، ما يرفع كثيراً من حظوظ فوزه، حيث تعتبر أحد أهم معاقل حزب الشعوب الديموقراطي.
حزب الشعوب من دون ممثل للشعب الأرمني
أثار غياب مرشّح أرمني عن قوائم حزب الشعوب الديموقراطي انتقادات واسعة من الأرمن في تركيا وخارجها، بخاصة في ظل الشعبية الكبيرة التي حظي بها ممثل الأرمن في صفوف الحزب البرلمانية، النائب كارو بايلان، الذي عرف بنشاطه الكبير في القضايا المتعلّقة بالأرمن والأقليات الأخرى في تركيا، وعلاقاته الجيدة بالمجتمعات الأرمنية سواء في أرمينيا أم في الدول الأخرى.
وجاء عدم ترشيح كارو، الذي شغل منصب نائب رئيس الكتلة البرلمانية للحزب، بسبب حظر الحزب ترشّح أعضائه لأكثر من دورتين برلمانيتين.
في المقابل، أكد بايلان، خلال مقابلات مع وسائل إعلام تركية، احترامه قرار الحزب، الذي “تم تطبيقه إلى حدّ كبير مع وجود بعض الاستثناءات” مشيراً إلى أنه “أمام حقيقة عدم ايجاد شخصية سياسية أرمنية أخرى لترشيحه من قبل الحزب كان من الممكن تطبيق التمييز الإيجابي بحقّه، لكي لا يتم حرمان الأرمن من التمثيل في برلمان تركيا في الانتخابات الأهم في تاريخ البلاد”، بخاصة أنه تلقّى عرضاً للترشح عن دائرة أنقرة الثالثة، في مهمة للفوز تكاد تكون شبه مستحيلة.
بالعودة إلى العقد الأخير من الانتخابات النيابية، فقد شهد البرلمان التركي للمرة الأولى في تاريخه وجود 3 نواب أرمن تحت قبّته غداة الانتخابات النيابية عام 2015، حين نجح كل من كارو بايلان وسيلينا دوغان عن حزب الشعب الجمهوري، وماركار إيسايان عن حزب العدالة والتنمية في دخول البرلمان.
ساهمت الأجواء المحيطة بتلك الفترة والمتمثلة بعملية السلام التركية الكردية، والاستنكار الكبير لجريمة قتل الصحافي الأرمني هرانت دينك ومراسم جنازته التي حضرها مئات الآلاف من الأتراك، وما تبع هذه الجريمة من تزايد الاهتمام بمشاكل المجتمع الأرمني وتاريخه في تركيا، ودفعت الأحزاب السياسية إلى تسمية مرشحين أرمن عن مراتب ودوائر ذات حظوظ وفيرة.
لكن، مع انتهاء عملية السلام وتصاعد التيار القومي في المجتمع التركي بجناحيه اليميني واليساري، وتوجّه الحكومة التركية نحو السياسات القومية، تبدد هذا الجو، وأدى إلى إحجام حزب الشعب الجمهوري عن ترشيح سيلينا دوغان لولاية ثانية، وتعرّض مرشح العدالة والتنمية ماركار إيسايان لخسارة غير متوقّعة، ليظل كارو بايلان النائب الأرمني الوحيد في البرلمان.
أخيراً، فإن غياب النوّاب الأرمن عن المعارضة التركية، مقابل الفوز المحتمل للنائب الأرمني عن حزب العدالة والتنمية، يفتح المجال أمام الحزب الحاكم، في حال نجاحه في الانتخابات القادمة، لمقاربة القضية الأرمنية من خلال منظوره السياسي، متسلّحاً بتصديق “المهر الأرمني” من خلال المرشّح سافيجي أوغلو، بالتزامن مع عملية التطبيع بين يريفان وأنقرة، والتي تعتبر ملفات اشكالية من قبيل الإبادة الجماعية الأرمنية وترسيم الحدود النهائية للدولتين، من أبرز منغّصاتها.