د. ميلاد السبغلي
تناولت عدة مقالات في الصحف والمجلات الغربية، مثل الواشنطن بوست، الغارديان، الفاينانشيال تاميز، نيويورك تايمز وغيرها، عدة مقالات لمحاولة تقدير الخطط الإسرائيلية لمستقبل الحرب على غزة، وما هو التصور الإسرائيلي لليوم التالي بعد توقف الحرب. والجامع المشترك بين جميع هذه المقالات، هو عدم وجود خطة موحدة أو تصور موحد عند العدو. وبالتالي هناك عدد من الخطط والافتراضات التي يتم تعديلها بحسب تطورات المعركة.
ولكن الثابت أيضاً، أن المعارك في غزة تسير بحسب ثلاثة أنواع من التوقيت:
التوقيت الإسرائيلي: الذي يحدد أهدافاً تجمع الصحافة الغربية أنه من غير الواضح مدى إمكانية تحقيقها، والتي عبر عنها وزير دفاع العدو غالانت بقوله: “في نهاية الحرب، سيتم تدمير حماس، ولن يكون هناك تهديد عسكري لإسرائيل من غزة، ولن تكون إسرائيل في غزة”. وهذا التوقيت يتأثر أيضاً بالعجلة الاقتصادية المتوقفة داخل كيان العدو منذ استدعاء 300 الف جندي احتياطي. وتقدر الصحافة الغربية بأنه على إسرائيل إعادة تشغيل هذه العجلة في مدة أقصاها 3 أشهر من بدء الحرب. ويسهم في ذلك التخبط الداخلي عند العدو، والتظاهرات من قبل أهالي الأسرى، والخسارة التدريجية للمعركة الإعلامية الدولية، برغم ضخ مئات ملايين الدولارات على الاعلام التقليدي والرقمي الدولي.
التوقيت الدولي: إن فترة السماح المعطاة لإسرائيل لتنفيذ مخططاتها العسكرية بدأت بالنفاذ، خاصة مع المجازر التي ترتكبها بحق المدنيين وقصف الأحياء والمدارس والمستشفيات واحتلالها وتهجير السكان. مما أدى الى ارتفاع أعداد الشهداء من الأطفال والنساء والمدنيين، وخلق مشكلة إنسانية غير مسبوقة، من خلال الأعداد الكبيرة من الجرحى والمهجرين، الذي لا مكان آمن لهم ليذهبوا اليه في كل قطاع غزة.
توقيت المقاومة: كلما طالت الحرب ولم يتم القضاء على المقاومة، كلما كان الوضع لصالحها. وبالتالي، فإن استراتيجية الصمود لأطول مرحلة ممكنة مع الحفاظ على البنية التحتية العسكرية والقوة الضاربة للمقاومة، هي السائدة، وتراهن على نفاذ التوقيتين الإسرائيلي والدولي.
والمعلومات التي تطرحها هذه المقالات، هي بمعظمها مستقاة من مقابلات شخصية مع كبار قادة العدو، السياسيين والعسكريين، من قبل الصحفيين الغربيين المتعاطفين إجمالا مع جيش العدو، والذين يحاولون تجميل صورة ما يقوم به، إظهاره كجيش محترف لديه خطط مهنية تفصيلية لما يقوم به، وللخطط المقبلة. وبرغم ذلك، يتوصل هؤلاء، ومنهم أسماء معروفة عالمية مثل دايفيد أغناطيوس في الواشنطن بوست، أو جايسون بروك في الغارديان، بأن التخبط سيد الموقف، ولا أحد لديه تصور كيف تنتهي الحرب وتحقق الأهداف الصهيونية التي يعبر عنها قادة العدو السياسيين والعسكريين، والتي هي أقرب الى الأوهام الصادرة عن جماعات فقدت عقلها بعد عملية 7 أكتوبر، ولا تستطيع برأي هؤلاء الصحفيين الخروج من الورطة الحالية دون مساعدة الأصدقاء، وعلى رأسهم الولايات المتحدة. لكن الأزمة أن إدارة بايدن وبلينكن تتهم من قبل الأميركيين بأنها منقادة وراء نتنياهو واليمين اليهودي المتطرف، وجاءت لتنزل إسرائيل عن الشجرة، فأصبحت هي بحاجة الى من ينزلها عن الشجرة.
بالعودة الى الخطط الإسرائيلية، التي وضعها جيش العدو لتحقيق الأهداف المعلنة، يمكن استخلاص النقاط التالية من خلال المقابلات العديدة التي أجراها الصحافيون الغربيون مع قادة العدو:
1- لا بد للقضاء على حماس، من محاولة فصل المدنيين عن حماس. ويقول جيش العدو أنه حاول عدة طرق، من رمي المنشورات، الى الاتصالات الهاتفية، الى التهديدات المتنوعة، من أجل دفع المدنيين في شمال غزة، للنزوح الى الجنوب، حتى يتسنى له القضاء على حماس بأقل خسائر مدنية، لكنه فوجئ بأن حماس منتشرة في كل بيت وعائلة، وأن المدنيين لم يستجيبوا لتهديداته، مما زاد حجم الخسائر المدنية، التي يعتبرها هو خسائر جانبية (Collateral Damage). وطبعا هذه سرديات مجملة لواقع مشروعه التدميري التهجيري ومجازره التي لا يمكن أن يغطي عليها هكذا منطق هزيل مهما تم تجميله من قبل الاعلام الغربي. ولكن لا بد من فهم السردية الإسرائيلية الغربية من أجل الرد عليها وتعريتها.
2- تتابع السردية، أن خطة جيش العدو كانت فصل غزة الى قسمين، الشمال والجنوب، ونقل المدنيين كمرحلة أولى الى الجنوب، والقضاء على حماس في الشمال. وفي البداية لم ينزح المدنيون، فما كان منه الا أن زاد القصف والدمار واحتلال المناطق والمستشفيات، مما أدى الى نزوح عدد منهم الى الجنوب. ويحاول جيش الاحتلال بعد تدمير قسم كبير من شمال غزة، وضع خطط للوصول الى البنية التحتية العسكرية لحماس في الأنفاق، دون جدوى كبيرة حتى الان. وينقل مقال دايفيد أغناطيوس في الواشنطن بوست عن غالانت، بأن جيش العدو بحاجة الى حل صناعي لمسألة الأنفاق، دون أن يوضح الكثير من التفاصيل. لكن المعولمات الإضافية تشير الى استخدام جيش العدو لتقنيات الحفر النفطية الحديثة، ويعتبر أن الحليف الأول له هو البحر المتوسط. وبالتالي يخطط لإنشاء انفاق من جهة البحر، تصل الى شبكة أنفاق حماس، وتغرقها بالمياه.
3- وتتابع هذه المقالات أن خطط جيش العدو لا تقف فقط في شمال غزة، بل ستنتقل الى الجنوب، وستحاول فصل المدنيين عن مناطق قوة حماس في خان يونس، مسقط رأس السنوار، الذي يعتقد الجيش الإسرائيلي أنه متحصن في شبكة أنفاق تحت خان يونس. فيخطط جيش العدو على تهجير المدنيين الى منطقة ساحلية قرب الحدود المصرية، اسمها المواسي، حيث يخطط لإنشاء مخيم ضخم، تستطيع الدول الغربية والعربية والمنظمات الدولية إيصال المساعدات الإنسانية اليه براً وبحراً، دون أن تستفيد حماس من هذه المساعدات. وهنا أيضاً يحاول الإعلام الغربي بتمويل إسرائيلي إظهار أن العدو يهتم للشأن الإنساني برغم أنه قتل الآلاف وجرح عشرات الآلاف وشرّد مئات الآلاف.
4- ويعتقد جيش العدو، أنه بعد أن فقدت حماس السيطرة على شمال غزة، على حد زعم نتنياهو، وبعد تلقيه أسلحة ذكية موجهة من اميركا، فإن طبيعة العمليات العسكرية التي سيجريها ستكون لها آثار تدميرية أقل على المدنيين، وبالتالي ستركز على عمليات نوعية تستهدف البنية العسكرية لحماس. وهذا ما يؤدي الى تخفيض عدد الاحتياط الذي تم استدعاؤه، وبالتالي إعادة تشغيل الدورة الاقتصادية المتوقفة. طبعاً هذه الافتراضات تشي بمكابرة ونكران لعمليات المقاومة الشرسة التي ما زال يواجهها جيش العدو في معظم مناطق شمال غزة، والتي تتسع مع الوقت وتستمر لفترات طويلة، طالما أن مسألة شبكة الأنفاق ما زالت قائمة ومذخرة. حيث يشير أحد المقالات بأن جميع خطط الجيش الإسرائيلي حتى الآن شملت تدمير ما تمكن من الأنفاق من فوق الأرض، أو سد بعد المنافذ التي لا يعرف احد عددها ومواقعها، وأن النزول للقتال في الأنفاق مسألة فائقة التعقيد والخطورة، لأسباب كثيرة منها طبيعة الشبكة وإمكانية وجود مفخخات وأبواب وعوائق تردع أي تدخل حتى من قبل الفرقة الإسرائيلية المدربة على حرب الأنفاق، وتعطل عمل الروبوتات والدرون التي يمكن استخدامها لاستكشاف هذه الشبكات.
5- وتتساءل هذه المقالات، إذا كانت السيطرة على بعض أطراف شمال غزة، والتوغل الجزئي في بعض نواحي المدينة، قد كلف جيش العدو الكثير من الضحايا، ومئات المدرعات والآليات، والقاء كم هائل من المتفجرات، يساوي قنبلة نووية، وهذا العدد الكبير من الضحايا والجرحى والمهجرين المدنيين، ومدة تفوق 40 يوماً من المجازر والقتل، فكم سيحتاج هذا الجيش لإتمام السيطرة على الشمال، ومن ثم تطبيق نفس المقاربة على مناطق الجنوب، وتدميرها، والدفع بما تبقى من المدنيين فيها الى التجمع في المخيم المفترض على الشاطئ الجنوبي لقطاع غزة الملاصق للحدود المصرية. وهل هذه الخطط قابلة للتطبيق، دون أن ينتهي الوقت في التوقيت الدولي المعطى للجيش الإسرائيلي، خاصة في ظل فشل كل مساعي إطلاق الأسرى حتى الآن، بسبب رفض العدو وداعميه الغربيين لفكرة وقف القتال قبل القضاء على المقاومة.
6- في ظل هذا الاستعصاء، بدأ الحديث الأميركي والغربي لنتنياهو وفريقه،بأنه عليهم تحديد أهداف مرحلية صغرى يمكن الاعتداد بها لوقف اطلاق النار، اذا اشتدت الضغوط الدولية. ولذلك يحاول نتنياهو وجنرالاته مثلا، العثور على عدد من الأسرى وتحريرهم بالقوة، أو قتل أحد قادة حماس الكبار، أو تدمير جزء من شبكة الأنفاق، وكل هذه هي أهداف أصغر بكثير مما حدده قادة العدو، من تدمير كامل لحماس، أو تحرير كامل الأسرى، أو بناء حكم مدني في غزة غير معادي لإسرائيل.
7- النقطة التي تجمع عليها كل هذه المقالات الغربية، هي أن إسرائيل لا تملك حتى الآن تصوراً واضحاً عن “اليوم التالي” The Day After، أي بعد وقف الحرب، سواء قامت بتدمير حماس بشكل كامل، وهو أمر شبه مستحيل، أو بوجود البنية التحتية العسكرية لحماس. وتقدر المصادر الغربية أن عدد الشهداء حتى الآن، البالغ حوالي 12 الفاً، وحوالي 3 آلاف تحت الأنقاض، ومن بينهم 60% من النساء والأطفال، أي أن عدد الرجال المتبقي بينهم هو حوالي 6 آلاف، يقدر جيش العدو أن نصفهم من حماس. بالتالي 3 آلاف عسكري، من أصل ما يقدر ب 35 الف مقاتل لدى حماس. أي أن نسبة خسائر الكوادر البشرية للمقاومة حتى الآن لا تتجاوز 10% بحسب التقديرات الإسرائيلية والغربية. وهذا إن دل علي شيء، فإنه يدل على استحالة تحقيق الأهداف التي أعلن عنها غالانت ونتنياهو، وهي عدم وقف الحرب قبل القضاء الكامل على حماس والمقاومة.
8- وهنا يبدأ الصحفيون الغربيون بمحاولة طرح حلول تسهم في إنزال إسرائيل وأميركا عن الشجرة، مثل التسليم بضرورة إعطاء الفلسطينيين دولة كاملة السيادة، تعيش بسلام بجوار إسرائيل، على غرار مصر والأردن والامارات، بحسب الواشنطن بوست. مع أن هذا الطرح مرفوض اسرائيلياً بالكامل، وأقصى ما يمكن أن يقبل به اليمين اليهودي الحاكم حالياً، هو نوع من سلطة فلسطينية تشبه الحالية، مع بعض التعزيزات الطفيفة، التي تضمن أمن إسرائيل.
ختاماً، تظهر هذه التحليلات الصحفية والمعلوماتية، حجم المأزق الذي يواجهه العدو في حربه التدميرية، ويواجهه داعموه الغربيين، الذين راهنوا على انتصارات سريعة لجيش العدو في حربه البرية على غزة لتدمير البنية التحتية العسكرية لحماس، على الأقل في المناطق التي توغل فيها، كما راهنوا على الهجوم المعاكس للجيش الاوكراني في الربيع الفائت، بعد أن زودوه بأحدث الأسلحة وبتمويل ضخم، دون نتيجة تذكر. فالواقع في غزة هو أن جيش العدو ما زال يواجه مقاومة شرسة في معظم المواقع التي احتلها، وحرب عصابات من خلال شبكة الأنفاق تشبه حرب الفيتكونغ Viet Cong وتتفوق عليها. وما زالت الصواريخ تطلق على المدن الفلسطينية المحتلة من شمال غزة.
كما أن إطالة أمد الحرب يؤدي الى الحاجة لتمويل أكبر، مما يؤثر على حروب أخرى يخوضها الغرب، خاصة في أوكرانيا، التي اصبح رئيسها يتوسل الدعم من الغرب، حتى لا ينهار نظامه وينتصر بوتين. وهذا أيضاً له تاثيره على الانتخابات الرئاسية الأميركية القادمة وتأثير فشل سياسات بايدن الخارجية، وانحيازه الأعمى الى إسرائيل، وتبنيه للأكاذيب والسرديات الإسرائيلية، على حظوظ أعادة انتخابه. حيث تشير الإحصاءات الأولية بأن ترامب يتقدم عليه في الكثير من الولايات المتأرجحة والتي عادة ما تقرر مصير الانتخابات. وقد طلب بايدن من الرئيس الصيني شي جينبينغ، في لقائهما هذا الأسبوع على هامش قمة منتدى التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادي (APEC)، التوسط لدى روسيا لإيجاد حلول للحرب الأوكرانية وتفادي الهزيمة الكاملة لزيلينسكي ونظامه، خاصة في ظل شح الأموال الغربية المتوفرة خلال السنة القادمة. كما طلب منه التوسط لدى إيران لضمان عدم توسيع حرب غزة، خاصة في ظل المشاغلة التي يقوم بها حزب الله في لبنان، وعمليات اليمنيين التي تطورت البارحة الى خطف سفينة إسرائيلية على متنها أكثر من 50 رهينة، والعمليات المتعددة في الشام والعراق، حيث بدأت المقاومة تتحدث عن ضرورة تحرير التنف، كخطوة تصعيد ضرورية للرد على الدعم الأميركي المفتوح للمجازر الإسرائيلية في غزة.
نتائج المعركة إذا، وما قد يحصل من ترتيبات في اليوم التالي، تتأثر بمدى تمكّن المقاومة على الصمود دون خسائر عسكرية كبيرة، وهو ما يحاول أن يضمنه تأهب حلفائها في لبنان والشام والعراق واليمن وايران، برغم الخسائر الكبيرة في الأرواح والممتلكات. ومأزق العدو وداعميه، هو في عدم قدرة جيش العدو من تحقيق اية انتصارات ولو محلية، تجعله قادراً على تبرير وقف القتال، لجمهوره المحلي القلق بعد عملية 7 أكتوبر، فيما الأهداف والخطط التي أعلنها شبه مستحيلة التحقق، حتى مع الرهان على اختراقات تكنولوجية وهندسية مثل محاولة إغراق شبكة أنفاق حماس بمياه البحر المتوسط. إضافة الى أن الضغوطات الدولية والشعبية، تتصاعد، ولو لأسباب إنسانية بحتة، مما جعل إسرائيل، بحسب هذه المقالات الغربية، تخسر معركة الاعلام والمعلومات. وهذا يجعل موقف أميركا ودول الاتحاد الأوروبي غير قادرة على تأمين توقيت مفتوح لجيش العدو لتحقيق أهدافة المستحيلة، وبالتالي، عليها عاجلاً أم آجلا، أن تسعى لحل المسألة من خلال وقف لإطلاق النار، والتفاوض على ترتيبات اليوم التالي، الذي ستكون المقاومة في صلبها. يبقى أن المزيد من الوقت يعني المزيد من المجازر والشهداء والجرحى والمهجرين، وتفاقم الأزمة الإنسانية التي يتفرج عليها العالم والعرب بالكثير من العجز المعيب…