يعود ارتداء “البدلة البيضاء” من قبل رئيس الجمهورية في لبنان إلى أيام الانتداب الفرنسي عندما كان المفوّض السامي يرفض أن يستقبل الزوّار إلاّ باللباس الأبيض، وفي عهد الاستقلال الأوّل أظهر الرئيس بشارة الخوري نوعا من “التمرد” لكنه في النهاية استطاب له اللون الأبيض ولم يفارقه إلا في النوادر.
وقد انتقل لباس “البدلة البيضاء” الى بلدان عربية عديدة وتحديدا عند رئيس مجلس السيادة إسماعيل الأزهري الذي حكم السودان في الستينيات من القرن الماضي والذي درس في الجامعة الأميركية في بيروت، وقد تأثر بالتقليد اللبناني ونقله معه إلى الخرطوم، بعد أن كان هو ومعظم السودانيين يعتقدون أن ارتداءه “البدلة البيضاء ” يعود إلى تشجيعه صناعة النسيج الوطني والمعروف باسم «الدّمُور» وهو القماش الذي يحاك باليد.
اللبنانيون يتفاءلون باللون الأبيض كبقية البشر، فهو رمزٌ للسلام، كما أنه اللون الغالب لدى معظم ضباط البحرية في دول العالم، عدا عن كونه مُؤشرا لحالة “الفرح” التي نزلت على هذا البلد وشعبه بعد أنْ تعب من الحروب والاقتتال.
ما زال الأبيض ملك الأناقة والتميّز، فالعروس لا تحمل هذه الصفة أنْ لم ترتد الفستان الأبيض، وكذلك رجالات السياسة اللبنانيون الذين ينزعون بدلاتهم الداكنة سريعا لتغيير إيقاع الحياة ولتوصيل رسالة للشعب الذي تاجروا به مفادها “نحن نحبّ السلام والحياة فلا تيأسوا”!!
منذ “اتفاق الطائف” عام 1989 لم يتمكن لبنان من إنجاز الانتخابات الرئاسية في موعدها، وعادة ما يشهد كرسي الرئاسة إما تمديداً أو فراغاً، وذلك بسبب التعقيدات السياسية والطائفية، فإن اختيار صاحب ” البدلة البيضاء” ، أو حتى تشكيل حكومة أو تكليف شخصية بتشكيلها يستغرق في العادة أشهراً عدة.
بدت مؤشرات عدّة محلية ودولية في الأيام الأخيرة باتجاه عودة حراك انتخاب رئيس جديد للبنان وإنهاء فترة الشغور الرئاسي منذ 31 أكتوبر 2022 بانتهاء ولاية الرئيس ميشال عون. ولكن على الرغم من هذا الحراك الذي جاء في ضوء العدوان الاسرائيلي على لبنان ، سواء من خلال اللقاء في عين التينة بحضور رئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس مجلس الوزراء نجيب ميقاتي ورئيس الحزب الاشتراكي السابق وليد جنبلاط ودعوة المجتمعين الى الاسراع في انتخاب رئيس للبلاد من دون التمسك ببند “الحوار” الذي كان قد تمسك به الرئيس بري كشرط أساسي يسبق انتخاب رئيس للبنان ، أم ما أعقبه من لقاءات للنائبين في كتلة “اللقاء الديموقراطي” وائل ابو فاعور وراجي السعد مع الفرقاء اللبنانيين لتعبيد الطريق أمام الاستحقاق الرئاسي ؛ فإن هذه الجهود تصطدم بمجموعة من العوامل الثابتة في المشهد السياسي اللبناني التي لا تزال تعوق هذا الطريق. فالعدوان الإسرائيلي على جنوب لبنان والبقاع والضاحية الجنوبية ببيروت ، وتأكيد حزب الله استمرار معركة الإسناد لفصائل المقاومة ما استمرت الحرب، يمكن معه القول إنه من الصعب تحقيق أي اختراق في ملف انتخاب الرئيس إلا بعد التوصل الى وقف لاطلاق النار وما ستنتهي إليه، ولاسيّما مع وجود تصريحات متوالية من قادة عسكريين إسرائيليين بضرورة شن توغل برّي في جنوب لبنان، وهو ما إن حدث سيكون له بالغ الأثر على لبنان في مجمله سياسياً وعسكرياً واقتصادياً واجتماعياً.
ينقسم المشهد اللبناني بين فريقين اساسيين حول ملف رئاسة الجمهورية ولكل منهما مقاربته المختلفة على هذا الصعيد . الفريق الاول يضم حزب الله والحلفاء الذين يرفضون البحث في اي استحقاق دستوري قبل نهاية الحرب مع اسرائيل. اما الفريق الثاني فتقوده ” القوات اللبنانية ” وهو يضم قوى سياسية تعارض جبهة ” اسناد غزة” وتراهن على معادلة سياسية وعسكرية قد تغير في مضمون القرار الأممي 1701 لجهة نشر قوات الجيش اللبناني جنوب نهر الليطاني وصولاً إلى الحدود الجنوبية وإخلاء المنطقة من السلاح.
لا شك أن هاتين المقاربتين تذكرنا بمقولة جورج نقاش الذي كتبها في 10 آذار 1949 واستشرف فيها، بعد ستة أعوام على الإستقلال، أنّ ” نفيان لا يصنعان وطناً”، وذلك رداً على شعار “لا شرق ولا غرب” .
«Deux Négations ne font pas une Nation»
بعد أكثر من سبعين عاماً على هذه الحقيقة، بالإمكان استحضارها، بتصرف، “مقاربتان لا تصنعان رئيسا للجمهورية”.
ومع تلك المقاربتين.. بين كل الخيارات المتاحة، تقتضي المسؤولية التاريخية عند الجميع بالعودة إلى الذات الوطنية عن طريق التبصّر ووضع واقع البلد و مستقبله في ميزان الأمن و الحرب، في كفتي الوجود او الامحاء، في إلغائنا او استمرارنا كوطن و كيان و كدولة فاعلة ولها وجودها بين الأمم لها حضورها ودورها ولها كلمتها الجامعة في اي ميدان اوموقع مهما عصفت بالوطن من محن وحروب.
وحده الوطن، خيارنا، وبعد ذلك لا خوف على “البدلة البيضاء” ، فلنبنِ وطناً تكاؤنيا مقاوماً حراً عزيزاً وكريماً ، فلنبدأ ولو لمرة وحيدة بحجر الأساس، بناء المواطن، خارج حظائره وغرائزه الطائفية.