ليست المشكلة في #لبنان مشكلة دستور. ولا يحتاج انتظام الحياة السياسية والخروج من دوّامة الأزمات المتتالية التي يعيشها هذا البلد منذ قيامه إلى مزيد من التعديلات على مستوى صلاحيات السلطات #الدستورية، أو إلى نقل بعض هذه الصلاحيات من سلطة دستورية إلى أخرى.
المشكلة هي في القوى التي تتولى تلك الصلاحيات لأنها تقوم على منطقٍ واحد وهو اعتبار المناصب الدستورية مكاسب ومواقع لطوائف الأشخاص الذين يشغلونها. أي أن المواقع الدستورية ما هي إلا متاريس في الحرب الأهلية الباردة حيناً والدامية أحياناً أخرى.
لهذا السبب، مع كل تبدّل في الأحجام، الديموغرافية أو العسكرية، ومع كل إنجاز تُسجّله هذه الجماعة الطائفية أو تلك، يكون هدفها اللاحق ترجمةُ هذه المتغيرات زيادةً في الحجم على مستوى السلطة، ويكون لبنان على موعد مع تأزّم في المؤسسات يُخفي المطالب المستجدة، ويتصاعد التأزم وصولاً إلى الانفجار.
وفق هذا المنطق، تُخْتصَر ديناميّة النظام السياسي بمُستويين اثنين من التنافس أو الصراع، الأول هو محاولة القابضين على تمثيل الطوائف الأكبر حجماً، السيطرة على تمثيل طائفي كامل أو احتكار مقاعد الطائفة بكاملها، والثاني هو محاولة زيادة مساحة المشاركة في السلطة باسم تلك الطائفة، وليس لحسابها طبعاً. وبالمقابل يجري التمسك بالأحجام والمكتسبات من قبل القابضين أو المتنافسين على تمثيل الطوائف المتراجعة من حيث الأحجام الديموغرافية أو المكتسبات.
المطالبون اليوم بالتخلّص من اتفاق الطائف أو الساعون إلى تعديله من دون مطالبةٍ علنية، يَعملون وفق هذا المنطق، وهم فئتان واحدة تضخّمَ حجمها منذ العام 1989 وتعتبر أن لها الحق بالحصول على ما يتناسب معه، وأخرى تعتبر أنها مُنيت بخسارة في ذلك الاتفاق وتظنّ أنها تستطيع استعادة ما خسرته. أما المتمسّكون به إنما يدافعون في الواقع عمّا درّه الاتفاق عليهم من مكاسب في السلطة ليس إلاّ. والجميع لا يعنيه تطبيق الإصلاحات التي من شأنها أن تُخرج البلد من هذا المنطق.
المشكلة أيضاً في فهم منطق الميثاق والغاية منه. فالميثاق هو مقدمة أو مُنطلَق للدخول في مَنْطِق الدولة والقانون والمواطَنَة، وهو ليس غايةً بذاته. ولهذا، عندما يقتصر تنفيذ الميثاق على بُعْدِه السلطوي التحاصصي ويوضع جانباً البعد الإصلاحي، يكون المصير انهياراً حتمياً مستقبلاً. هذا ما حصل في ميثاق 1943 اذ تقاسم طرفاه السلطة، ولكنهما لم يُقْدِما على التخلّص من هذا المنطق والدخول في مرحلة دولة المواطَنَة كما كان قد وَعَدَ رياض الصلح، فترسّخ نهج التحاصُص الطائفي الذي يحتوي بداخله عناصر تفجيره، وحصلت حرب أهلية صُغرى في 1958 وحرب كبرى في 1975 انتهت إلى ميثاق جديد في العام 1989 في الطائف.
الفرق بين الميثاقَيْن أن الثاني أُدرج معظم بنوده الإصلاحية في مَتْن الدستور بينما الأول بقي شفهياً، ولكن المشترك بينهما أن الإصلاحات التي من شأنها بناء الدولة وُضعت بمعظمها جانباً.
مشكلة اتفاق الطائف أنه طُبّق بمنطق الإتفاق الثلاثي، وبمن حضَرَ من أطراف هذا الأخير. واقتصرت الإصلاحات التي طُبّقت على ما تعلّق منها بإعادة توزيع السلطة، أما تلك التي تتضمن عناصر قيام دولة القانون والمواطَنَة فلم تُطبّق، ومنها تشكيل الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية واللامركزية الموسّعة وقانون الانتخاب بعد إعادة النظر بالمحافظات وحلّ الميليشيات.
الخروج من الحلقة المفرغة لا يكون بميثاق جديد بل بإقلاع رحلة تطبيق الإصلاحات التي طال انتظارها والتي أصبح معظمها نصوصاً دستورية ملزمة. وتطبيق هذه النصوص يجب أن يؤدّي إلى ولادة قوى سياسية ترى الشأن العام نقيض ما كرّسته القوى الحالية، التي تتشابه في التكوين وفي العجز عن الإنقاذ.
بهذا المعنى على اتفاق الطائف أن يكون الميثاق النهائي الأخير. وأي حوار أو اتفاق على غير ذلك فهو باطل.