أبت فصول الانهيار اللبناني إلا أن تكون للماضي حصة منه، وهو ما تجلى باكتشاف سرقة الأرشيف المرقمن لـ”الوكالة الوطنية للاعلام” الرسمية اللبنانية، علماً أن المسروقات تمثل 10% فقط من الأرشيف الكامل الذي يضم مليونين و200 ألف صورة، وذلك بدءاً من العام 1961، أي تاريخ إنشاء “دولة المؤسسات” في عهد الرئيس فؤاد شهاب..
وفي حين طمأن وزير الإعلام زياد مكاري، عبر “المدن”، إلى “أننا نحتفظ بنسخات hardcopies” (أي صور ونيغاتيف الصور) من الأرشيف المرقمن، وأنه، عملياً لم تحصل خسارة كلية للجزء المسروق من الأرشيف، لكنه أسف في المقابل لضياع الجهد المبذول لسنوات من قبل الموظفين في عملية الرقمنة.
وهذا الامر يستدعي سؤالاً آخر: كيف لم تؤمّن الدولة نسخاً رقمية أخرى (backup) لرقمنة استغرق تنفيذها سنوات? ليتضح في المقابل، أن هذا الأرشيف لم “يتبعثر” اليوم فقط، فرحلته مع الدولة لطالما كانت “شاقة” من الأساس، هو الذي أكلت الجرذان بعضه، واكتُشف صدفة.
“صورة” تلو “الصورة”
تتضارب المعلومات حول حجم الصور المرقمنة ضمن مسار رقمنة الارشيف. ففي حين يقدّر مدير الوكالة الوطنية بالتكليف، زياد حرفوش، في حديث لـ”المدن”، حجم الصور المرقمنة بـ10% فقط من الأرشيف الكامل، تقول المديرة السابقة للوكالة لور سليمان إنها، يوم تركت موقعها في الوكالة في العام 2019، كانت قد تمت رقمنة نحو 25% من الصور، لافتة الى انه في العام 2017 وحده، كان القسم قد أنجز تحويل النيغاتيف من الفترة بين 1961 و1970 بالكامل الى نسخة رقمية.
ويكشف أحد المطلعين على عمل الأرشيف، والتي تحفّظ عن ذكر اسمه، عن عمل شاق وجهد جبار تمت سرقته، فعملية الرقمنة استغرقت سنوات، وعلى الموظفين اليوم البدء من الصفر.
فالرقمنة تبدأ بتظهير الصور “صورة… تلو الصورة” عبر أجهزة السكانر، مروراً بإعادة تظهير الصور القديمة مرات ومرات احياناً، لتكون نقية كفاية، قبل رقمنتها أخيراً.
ويضاف الى عامل الوقت اليوم، عامل انقطاع الكهرباء. في السياق، يكمل المصدر: “في الآونة الأخيرة تراجع عملنا في الأرشيف كثيراً، إذ أنّ ساعات التغذية بالكهرباء، تقنّن عملنا”. وهذا ربما سبب اكتشاف السرقة بعد أيام من وقوعها.
حجم الخسارة
يوضح الوزير مكاري لـ”المدن” أنّ ما سُرِقَ هو “سيرفر” الصور المُمكننة، أما الصور فهي في الحفظ، ويتأسف لأن هناك خسارة مادية ومعنوية وقعت. فالوزارة سُرِقت، وهناك ذاكرة سُرِقت، في دلالة على مستوى فلتان غير مقبول، وخسارة مادية لسيرفر وخمسة أجهزة كومبيوتر وعشرين بطارية، تضاف إليها خسارة معنوية لجهد الموظفين المبذول في الرقمنة.
وعن عملية الرقمنة، يلفت الى أنها جارية في الوكالة الوطنية وعلى مستوى الإذاعة وتلفزيون لبنان. في الوكالة تحديداً، “الموظفون يرقمنون منذ سنوات، ومنذ سنة دعّمنا هذه العملية بعقد بروتوكول مع وزارة الخارجية الفرنسية والمعهد السمعي البصري الفرنسي، لمساعدتنا في الرقمنة، تحت إشراف فرنسي، ومن المرجح أن نمدد لعام آخر، ريثما يتم الانتهاء من عملية الرقمنة بالكامل، وذلك بهدف الاستفادة من هذا الأرشيف سواء عبر نشره واستخدامه، أو كسب مردود منه وفق حقوق النشر”.
تاريخ لبنان في صور
وأرشيف الوكالة الوطنية المفقود “رقمياً” اليوم، هو الأرشيف الذي يبدأ بالعام 1961، ويوث تاريخ لبنان منذ تاريخ تأسيس الوكالة الوطنية في عهد الرئيس فؤاد شهاب، وهو نتاج ما التقطته عدسات كاميرات “دالاتي ونهرا” الملّزمة وفق عقد مع الدولة، أخذ الصور الرسمية اللبنانية منذ أكثر من نصف قرن.
والحال أنّ الدولة لم تعر أرشيفها الرسميّ أهمية منذ البداية، واكتفت بتلزيم مهمة التصوير للرئاسات الثلاث والإدارات العامة لشركة “دالاتي ونهرا”، من دون الاحتفاظ بأي نسخ لها عن تلك الصور، تضمن حقوقها سواء بملكيتها أو نشرها، وذلك لأكثر من 37 عاماً، قبل أن يأتي العام 1998 ويطلب وزير الإعلام آنذاك أنور الخليل، ذلك الأرشيف.
بمعنى آخر، ظلّت الوكالة لعقود، بلا قسم أرشيف، واكتفت بلعب دور “الوسيط” بين الصور التي كانت تسلمها لها “دلاتي ونهرا”، والصحف اللبنانية التي كانت توزعها عليها لتنشرها بدورها، وذلك حتى وصول لور سليمان لمديرية الوكالة في العام 2008، التي قررت الانتفاضة على “دور الوسيط”، طالما أنه يمكن للوكالة الاستفادة من صور تعود ملكيتها لها، ونشرها عبر صفحاتها، لإفادة المواقع اللبنانية، وفق ما تروي سليمان لـ”المدن”.
الأرشيف المُكتشف “صدفة”
بعد خمسة أشهر على ترأسها للوكالة، لم تكن لور سليمان نفسها تعرف أن الأرشيف موجود في أحد طوابقها. وخلال جولاتها المعهودة، استرعت انتباهها غرفة مقفلة في الطابق الثاني تحت الأرض، تم ردعها عن دخولها بقول أحدهم: “وينك فايتة… الأوضة مليانة جرادين”، لكنها أصرت على الدخول.
و”على العتمة” اصطدمت سليمان بأجهزة دكتيلو وأحبار ومراوح تالفة، وبينما كانت تسير بين “الكراكيب”، دهست برجلها شيئاً أصدر صوتاً لافتاً، لتكتشف أنه “نيغاتيف” صورة، ولم تكن هذه سوى البداية، لاكتشاف مئات آلاف أشرطة النيغاتيف المرمية من ذاكرة الدولة اللبنانية، تتآكلها الغبار والجراذين، ما أتلف بالفعل بعضها!
فصحيح أنّ الوزير أنور الخليل، طلب الأرشيف، إلا أنّ أحداً لم يسعَ لحفظه أو توثيقه لأكثر من 10 أعوام في الوكالة، بل أن تاريخ لبنان في الصور، رُمي في غرفة، ترمى فيها الأشياء التالفة، غير ذات القيمة!
مشوار الاستهتار الطويل هذا بالأرشيف الرسميّ، استُتبع بمحاولة من سليمان حفظه ورقمنته في مشروع الرقمنة العام 2011. لكنّ مسار التوثيق بعد الحفظ، لم يكن سهلاً كفاية. تروي سليمان لـ”المدن”: “أولاً، الفرز الوحيد للنيغاتيف، كان وفق السنوات، فلا نعرف السياسي منها مثلاً من الفني. ثانياً، من الصعوبة معرفة محتوى الصورة، وتالياً أهميتها قبل تظهيرها. ثالثاً، وحتى بعد التظهير، كان من الصعب علينا معرفة بعض الشخصيات في الصور، ما جعلنا نلجأ لمن هم أكبر منا سناً، لتوثيق أحداث الصورة قبل أرشفتها ورقمنتها”.
وعشوائية الفرز من قبل “دالاتي ونهرا”، تتجلى مثلاً في تظهير 600 صورة عشوائية، اختيرت منها 100 صورة بعناية في كتاب “ذاكرة لبنان في صور” العام 2011، وذلك بمناسبة يوبيل الوكالة.
نسأل سليمان عن محتوى هذا الأرشيف، لتكشف عن “صور مهمة” جداً، دفعت سفارات عديدة لطلب بعضها أحياناً، لنزودها بها بعد موافقة الوزير.
ويوثق الأرشيف جميع الحقبات الرئاسية منذ العام 1961 أي منذ عهد الرئيس فؤاد شهاب، في حين ان الكتاب يوثق المرحلة حتى عهد الرئيس ميشال سليمان، ويختتم بصورة للبطريرك الراعي، كتوثيق لانتهاء حقبة البطريرك صفير.
ويضم الأرشيف صوراً ملونة وصوراً بالأبيض الأسود، وصوراً لكل الرؤساء المتعاقبين يقسمون اليمين الرئاسي، ومحطات بارزة في تاريخ لبنان، وسفارات أجنبية فيه، ومهرجانات وحروب لبنانية.
فمن زيارة البابا يوحنا بولس الثاني لبيروت العام 1997، إلى المصافحة بين الرئيس جمال عبد الناصر ورئيس الحكومة حسين العويني العام 1964، إلى لقاء بولس الأول مع الرئيس الياس سركيس، والأخضر الابراهيمي مع الرئيس ميشال عون، واستقبال الرئيس شارل حلو لحاكم دبي راشد بن سعيد آل مكتوم في 19 أيلول 1969، يوثق الكتاب تاريخ لبنان الحديث، في 100 صورة.
ومن محطات الرؤساء السياسية والانسانية، يوثق الكتاب بيار الجميل الجدّ، مفتتحاً معمل الكهرباء العام 1965، والرئيس فؤاد شهاب خلال زيارته لمصرف لبنان العام 1964، والرئيس رشيد كرامي بالهليكوبتر العام 1965، ووقوف الرئيس فؤاد شهاب مع مناصريه إثر فشل محاولة الانقلاب، والرئيس شارل حلو وهو يُجري سحب دم.
وللحرب اللبنانية حصة، فعشرات الصور وثقت مجزرة قانا، إحداها توثق عنصر صليب أحمر يحمل طفلة قتلها العدوان الاسرائيلي. وصورة أخرى لطلاب “تحدوا الرصاص وحرروا بلدة أرنون العام 1999″، وصورة توثق عقد جلسة لمجلس النواب في بنت جبيل بعد التحرير برئاسة نبيه بري.
وللفن حصته، مع صورة لتكريم الفنان وديع الصافي من قبل الرئيس إميل لحود، وصور من مهرجانات بعلبك والأرز ومهرجان القرعون في 20 أيلول 1961.
“لم أفرّط في النيغاتيف” تقول سليمان، وعندما طلبت مني ابنة الرئيس فرنجية صور والدها، قلت لها أنه لا يمكننا تزويدك بالنيغاتيف، فزودناها إياه عبر نسخة DVD.
هذه الثروة الوطنية، “دفعتني قبل أن تتم إقالتي من الوكالة، للطلب من موظفي الأرشيف أن يحفظوا الصور المرقمنة في سيرفر آخر كي لا تضيع، ولا أعرف بعد مغادرتي ماذا حدث”.
صور مسروقة… “غير مخصصة للبيع”!
وفي حين ما زالت عملية السرقة مجهولة الخلفيات، كان لا بدّ من السؤال عن مصير الصور المرقمنة المسروقة وإمكانية استخدامها من قبل الجهة السارقة.
نسأل برهان الأشقر، من مؤسسة “طلال أبو غزالة” للنشر، (والتي تعاقدت مع الدولة في مشروع التحول الرقمي قيد التنفيذ)، فيقول لـ”المدن”: السيرفرات ومحتوياتها ملكيتها تعود للوكالة الوطنية، أي للدولة اللبنانية، والتداول والبيع والشراء بها، يعتبر جريمة، أي أن أي جهة شارية مفترضة تتعامل مع السارق، تضع نفسها تحت المساءلة وهو ما يعاقب عليه القانون في كل دول العالم.
فكل أرشيف هذه الوكالة هو ملكها، وإذا كانت سرقته جريمة، فبيعُه كذلك جريمة، بمعنى أنه يستوجب محاسبة ومساءلة “البائع” و”المشتري” في آن معاً.
ويوضح: “حقوق الملكية الفكرية لا تفريط فيها. لا يحق لأي وكالة دولية، نشر ولو صورة واحدة من وكالة أنباء محلية إلا بطلب خطّي حصراً، وبعد موافقة الجهة التي تعود لها ملكية الصورة”.
وكالة من دون بوّاب
وأرشيف المليوني صورة وأكثر، والذي لا تعرف الدولة نفسها ما يحويه بالكامل، ذلك الكنز المفرّط فيه، والذي سرق لغياب حراسة أمنية مشددة عليه، يثبت اليوم أن الوكالة الوطنية هي حرفياً “من دون بوّاب”، في أبرز أوجه تحلل دولة المؤسسات. ولو كانت الصور “بتحكي”، لنطقت، ليس عن سارقها وحسب، بل عن رحلة استهتار طويلة بهذه الذاكرة وتاريخ البلاد.