
في إطار دعوته إلى التفاعل الإيجابي ونشر ثقافة المحبة والسعادة في العمل، نشر د. ميلاد السبعلي عبر صفحته على فايسبوك مقالًا رائعا يفسّر فيه أسرار الوعي الداخلي في صنع سعادة الفرد وهذا ما جاء فيه:
“ليست السعادة حالةً عابرة ولا امتيازًا للحظ السعيد، بل هي بناءٌ واعٍ للحياة — هندسة داخلية وخارجية تتكوّن من عاداتٍ، وعلاقاتٍ، وقيمٍ، وأنظمةٍ تُغذّي الإنسان والمجتمع معًا، في كافة الظروف…
فالأفراد يصنعون سعادتهم من خلال الوعي والممارسة، والمؤسسات تحفظها عبر ثقافتها وبُناها.
وحين يلتقي الاثنان، يولدان بيئةً تتّزن فيها الراحة النفسية للأفراد مع نجاح الجماعة وتميّزها.
فيما يلي عشرة أعمدة تُشكّل هندسة السعادة، تُقدَّم كلٌّ منها بوصفٍ عام، يتبعه تحدّياتٌ واقعية على المستوى الفردي والمؤسسي، ثم حلولٌ عملية واضحة ومتكاملة.
1. التفاعل الإنساني: الأساس الذي تقوم عليه السعادة
المفهوم
تبدأ السعادة من الاتصال لا من العزلة. فالإنسان كائنٌ اجتماعي، تنمو روحه بالعلاقات الصادقة مع العائلة والأصدقاء وزملاء العمل والمجتمع. الإصغاء، والمشاركة، والرحمة، والتسامح هي العناصر التي تُبقي القلب حيًّا والعقل متّزنًا والتفاعل محييًا.
التحدّيات
فرديًّا: العزلة، والانشغال المفرط بالتكنولوجيا، وفقدان الثقة بالنفس او بالآخرين، أو السطحية في العلاقات.
مؤسسيًّا: الانقسام بين الإدارات، والتراتبية الحادة، أو ثقافة التنافس السامّ التي تضعف روح التعاون.
الحلول
على مستوى الفرد: خصّص وقتًا للتواصل الحقيقي، استمع بعمق، وشارك تجاربك، واستخدم الأجهزة الرقمية بشكل متوازن.
على مستوى المؤسسة: أنشئ ثقافة الأمان النفسي التي تتيح للجميع التعبير بحرية، واعتمد برامج إرشادٍ وتعاونٍ بين الفرق، واحتفِ بالعمل الجماعي لا بالإنجاز الفردي فقط.
2. الغاية والمعنى: البوصلة التي تمنح الاتجاه
المفهوم
الغاية تمنح الحياة اتساقها، وتحوّل العمل من واجبٍ إلى رسالة. يشعر الإنسان بالسعادة حين يرى أثر جهده ويجد معنىً لما يفعله، وحين تتصل طاقته بهدفٍ أسمى من ذاته.
التحدّيات
فرديًّا: الروتين، أو فقدان المعنى، أو الإرهاق النفسي الناتج عن أعمالٍ بلا هدف.
مؤسسيًّا: البيروقراطية أو الرؤية المحدودة التي تضع الربح او المكاسب الفئوية فوق الرسالة.
الحلول
على مستوى الفرد: تأمّل في قيمك الشخصية وحدّد ما يمنحك الإلهام. اختر عملًا أو مشروعًا يعبّر عنك وعن قناعاتك، ويخدم الآخرين.
على مستوى المؤسسة: أعِد تعريف الرسالة الكبرى للمؤسسة واجعلها حاضرة في كلّ عملٍ وقرار. اربط مهام الأفراد بأثرها المجتمعي، وامنحهم حرية المبادرة في طريقة تحقيق الهدف.
3. الامتنان والتقدير: فنّ النظر إلى الجانب المضيء
المفهوم
الامتنان لا يغيّر الواقع بل يغيّر نظرتنا إليه. حين نركّز على النِعَم بدل النواقص، نعيد برمجة وعينا على الفرح والرضا. فالتقدير المستمر يغذّي التفاؤل ويعمّق العلاقات ويخفّف التوتر.
التحدّيات
فرديًّا: التفكير السلبي، والمقارنة المستمرة، والنقد الحاقد، أو الشعور بعدم الكفاية.
مؤسسيًّا: غياب ثقافة التقدير، والاقتصار على النقد أو المحاسبة فقط.
الحلول
على مستوى الفرد: دوّن يوميًّا ثلاثة أمور تشكر الحياة عليها، وعبّر عن امتنانك لمن حولك، وانظر إلى التحديات كفرصٍ للتعلّم. قدم رأيك النقدي ان وجد، بشكل مهني وغير استفزازي للآخرين.
على مستوى المؤسسة: أسّس نظامًا واضحًا للاعتراف بالجهود الصغيرة والكبيرة، وابدأ الاجتماعات بفقرة امتنان قصيرة، واجعل التغذية الراجعة قائمة على التقدير قبل التصحيح. لا تجعل اسلوب النقد مدمرا ومتنمرا، بل بناء وغير شخصي.
4. التقبّل والمرونة والنمو: فنّ التناغم مع التغيير
المفهوم
المرونة ليست مقاومة الألم، بل القدرة على تحويله إلى طاقة. فالحياة لا تخلو من الصدمات، لكن السعادة تكمن في التكيّف الواعي معها والتعلّم منها. التقبّل بداية الحكمة، والمرونة طريق النمو.
التحدّيات
فرديًّا: الخوف من الفشل، أو المثالية المفرطة، أو رفض التغيير او الحكم السلبي المسبق على نتائجه.
مؤسسيًّا: الجمود بحجة الثبات، ورفض الابتكار، والانفصال عن الواقع، وضعف التواصل في الأزمات.
الحلول
على مستوى الفرد: تقبّل الأخطاء كجزءٍ من التعلّم، ودرّب نفسك على الصبر والتعاطف مع ذاتك. مارس التأمّل أو الرياضة لتحافظ على توازنك.
على مستوى المؤسسة: قدّم برامج تدريب على المرونة النفسية، ووفّر دعمًا نفسيًا، واتّبع سياساتٍ شفافة في مواجهة التغيّر أو التعامل معه. حوّل الأزمات إلى فرصٍ لإعادة التصميم لا للّوم.
5. التوازن: فنّ الحياة المستدامة
المفهوم
السعادة لا تولد من الإفراط بل من الانسجام. فالتوازن بين العمل والراحة، وبين الطموح والسكينة، وبين العطاء والتلقّي، هو ما يجعل الحياة قابلة للاستمرار والعطاء والتميز.
التحدّيات
فرديًّا: الإرهاق، والإدمان على العمل، والشعور بالذنب عند الراحة.
مؤسسيًّا: ثقافة العمل المستمر وغياب الحدود بين الحياة الشخصية والمهنية.
الحلول
على مستوى الفرد: نظّم وقتك، وامنح نفسك فترات راحة، واعتبر الترفيه جزءًا من النجاح لا عدوّه.
على مستوى المؤسسة: اعتمد جداول عملٍ مرنة، واحترم أوقات الإجازة، ولتكن القيادة قدوةً في احترام التوازن. أدرج مؤشرات الرفاه ضمن تقييم الأداء العام.
6. التعلّم المستمر والفضول: محرّك التجدد
المفهوم
التعلّم هو الأكسجين العقلي للسعادة. فكلّ تجربة جديدة توسّع الأفق وتغذّي الإبداع. الفضول ينعش الروح ويمنح العمل طاقةً لا تنضب.
التحدّيات
فرديًّا: الخوف من الفشل أو الكسل المعرفي أو ضيق الوقت.
مؤسسيًّا: اعتبار التدريب عبئًا ماليًا أو تقليل قيمة التطوير المهني، واعتبار انه غير ضروري طالما “الامور ماشية”.
الحلول
على مستوى الفرد: خصّص وقتًا أسبوعيًّا للتعلّم، وجرّب أشياء جديدة، ولا تخف من أن تكون مبتدئًا.
على مستوى المؤسسة: أنشئ بيئة تعلم مستدامة عبر أكاديميات داخلية وشراكات مع جامعات ومنصات تعليمية. كافئ التجريب والابتكار.
7. الأصالة والنزاهة: شجاعة أن تكون صادقًا مع ذاتك
المفهوم
الأصالة هي الانسجام بين ما نؤمن به وما نفعله. والنزاهة هي البوصلة الأخلاقية التي تحفظ الثقة داخل الفرد والمجتمع. الصدق مع النفس شرطٌ للسعادة والسلام الداخلي.
التحدّيات
فرديًّا: الخوف من الحكم الاجتماعي أو الحاجة إلى القبول أو ضعف الثقة بالنفس.
مؤسسيًّا: التناقض بين القيم المعلنة والممارسات الواقعية، وغياب الشفافية في اتخاذ القرار، والانحياز والفئوية والشللية والمحسوبيات.
الحلول
على مستوى الفرد: تمسّك بمبادئك حتى في المواقف الصعبة، وكن صريحًا، واعترف بأخطائك بشجاعة.
على مستوى المؤسسة: مارس حوكمة أخلاقية قائمة على العدالة والصدق، وطبّق القيم في السلوك لا في الشعارات. اجعل القادة نموذجًا للنزاهة والوضوح وعدم الانحياز. كافح الفئويات والكليكات والشلل.
8. الفرح واللعب والإبداع: الشرارة التي تُبقي الروح حيّة
المفهوم
اللعب ليس نقيض الجدية، بل مكمّلها. الفرح، والموسيقى، والفنون، والأدب، والشعر، والخيال، كلها تُنعش العقل وتحرّر الإبداع. حين نغيب عن الفرح، تبهت طاقتنا ويذبل الشغف.
التحدّيات
فرديًّا: الجدية المفرطة، الإرهاق، أو الخوف من الظهور بمظهر غير مهني.
مؤسسيًّا: بيئات عملٍ جامدة وجافة، وافتقار للإلهام أو للأفكار الجديدة المبدعة أو الخيال الجماعي.
الحلول
على مستوى الفرد: أعد إدخال الفرح إلى يومك عبر الهوايات والفن والرياضة والضحك.
على مستوى المؤسسة: أنشئ مساحاتٍ محفّزة، وفعّالياتٍ ثقافية وفنية، ومختبرات ابتكار تشجع التجريب دون خوف. اجعل الفرح جزءًا من ثقافة العمل لا ترفًا ثانويًّا.
9. المجتمع والعطاء: السعادة التي تتضاعف بالمشاركة
المفهوم
السعادة الحقيقية تنمو حين تتجاوز حدود الذات. المساهمة في خدمة الآخرين، ولو بخطوة صغيرة، تزرع شعورًا بالانتماء والمعنى. أمّا المؤسسات التي تخدم محيطها، فتبني قيمتها الأخلاقية قبل سمعتها.
التحدّيات
فرديًّا: الأنانية، والتركيز على الذات والمصلحة الفردية فقط، وغياب التعاطف واللامبالاة بالقضايا العامة.
مؤسسيًّا: الانغلاق على المصالح الداخلية أو التركيز على الربح القصير الأمد أو المكاسب الفئوية والآنية.
الحلول
على مستوى الفرد: شارك في مبادراتٍ تطوعية، أو ساعد زملاءك، أو قدّم خبرتك لمن يحتاجها.
على مستوى المؤسسة: أطلق برامج مسؤولية اجتماعية، وادعم المشاريع البيئية والتعليمية، واربط نجاح المؤسسة بأثرها الإنساني في المجتمع.
10. التأمل والانسجام الداخلي: البعد الصامت للسعادة
المفهوم
في زمن الضوضاء والتسارع، يصبح الصمت غذاءً للعقل. التأمل يخلق وعيًا ذاتيًا أعمق، ويعيد ترتيب الأفكار والمشاعر. ومنه تنبع الحكمة والطمأنينة.
التحدّيات
فرديًّا: التشتت، والإدمان على الانشغال، وفقدان لحظات الهدوء، وتعدد الوظائف نتيجة الضغوط الاقتصادية.
مؤسسيًّا: ثقافة العجلة الدائمة التي لا تترك مساحة للتفكير الهادئ، والضغط المستمر وعدم وجود ثقافة التخطيط والتقييم والتعديل والتأمل..
الحلول
على مستوى الفرد: خصّص وقتًا يوميًا للتأمل أو الكتابة أو الصلاة، وأعد التواصل مع ذاتك بعيدًا عن الضجيج.
على مستوى المؤسسة: أدرج فترات استراحة للتفكير الهادئ في الاجتماعات، ونظّم أيامًا للرفاه والتأمل الجماعي، ووفّر مساحات صمتٍ وإلهام للموظفين أو الطلاب.
من الممارسة الفردية إلى التصميم المؤسسي
حين تتحول السعادة من مفهومٍ شخصي إلى إطارٍ مؤسسيٍّ منظم، تتبدّل المؤسسات من آلاتٍ بيروقراطية إلى أنظمةٍ حيّة للرفاه والنمو.
يمكن قياس ذلك عبر ثلاث مستويات مترابطة:
1. السياسات: هل تنعكس القيم والرفاه في الأنظمة الرسمية؟
2. الممارسات: هل تُترجم تلك القيم في السلوك اليومي والقيادة؟
3. التجارب: هل يشعر الناس فعلًا بأنهم محترَمون، ومتوازنون، ومُلهمون؟
هكذا يولد ما يمكن تسميته بـ مؤشر السعادة المؤسسية، الذي يكمّل مؤشرات الأداء المادية بمقاييسٍ للثقة والنمو والانسجام.
الخاتمة: نحو هندسةٍ إنسانيةٍ لمستقبلٍ أكثر إشراقًا
السعادة ليست صدفةً، بل فنٌّ في الوعي والتصميم.
حين يتعلّم الأفراد كيف يزرعون الامتنان والتوازن والإبداع، وحين تعكس المؤسسات هذه القيم في ثقافتها وقراراتها، تتأسس حضارة جديدة يكون فيها الإنجاز وسيلةً للسلام الداخلي والنهوض المؤسسي، والتقدّم وجهًا لنهضة المجتمع.
فالفرد السعيد يُغيّر بيئته، والمؤسسة السعيدة تُغيّر مجتمعها، ومعًا يبنون هندسة السعادة — حجر الأساس لحياة أكثر توازنًا، وعدلًا، وبهاءً.”



